"إن غريزة الإنسان التي تدفعه دفعًا لأن يعيش الواقع ، هي التي حالت دون أن يتحول هذا العالم إلى مسرح لإدعاء البطولة!"
- ويليام جيمس.
للأنثروبولوجي الأمريكي : إرنست بيكر Ernest Becker مقاربة نفسية-اجتماعية للـ Heroism - اصطناع البطولة سماها "الحاجة العامة\الكونية الملحة لاصطناع البطولة The Universal Urge Of Heroism" ، يمكن إجمال نظرية بيكر في التالي : الإنسان مدفوع طوال حياة بالخوف من الموت! ، وليستطيع الإنسان التغلّب على الخوف من الموت ، عليه أن يدرج نفسه داخل نظام من "البطولة"
[سيتم ترجمة لفظ Heroism بـ :"البطولة" أو "اصطناع\ادعّاء البطولة" وإن كانت ترجمة غير دقيقة تمامًا]
حسنًا ، ما الذي يقفز إلى رأسك فور أن نقول "بطل - Hero"؟ ، شخص ذو قدرات خارقة ، أو قام بأفعال شجاعة ، أو نجح نجاحًا مذهلًا ، أو جمع ثروة طائلة ، أو ضحى تضحية نبيلة!
لكن بالنسبة للإنسان العادي Average Individual فكل ذلك غير متوفر ، فالشخص العادي عادة ما يمارس أنشطة يومية رتيبة وغاية في الملل ، وهو يحتاج في هذا إلى معنى يخلعه على هذه الأنشطة ويعطيه المبرر لاستمراره فيها ، هذا المعنى - وبما أن الإنسان كائن متجاوز - عادة ما يحمل بعدًا "بطوليًا" أو يمكن التعبير عنه بشكل بطولي! وإن كان غير ذلك! ، وهنا يبدأ ما اسماه بيكر "السعي خلف الوهم" ، من خلال "اختراع بطولة Heroism".
يشرّح بيكر نظم اصطناع البطولة ، فيقمسها إلى ثلاثة أقسام :
الأول منها ما هو مرتبط بالدين وهو ما أسماه "Religious Heroism" ، والذي هو بالفعل يعطي حياة الإنسان معنى ، ويجعله كائنًا مميزًا وسط الكون ، ويعطي لعمله اليومي معنى.
ولكن ، في عصر الحداثة الغربية انحسر دور الدين ، وقلّ عدد المصدقّين به ، وبالتالي خرج طلب البطولة عن نطاقه إلى نطاقات أخر!
الثاني: طلب البطولة الفردية "Personal Heroism" وهو ما يعني أن يعتبر الإنسان نفسه وحيدًا في الكون ، ولا يعتمد على الآخرين ، ويعرّف نفسه أنه شخص صنع نفسه بنفسه ، ويقيس "بطولته" بما يملكه من مواهب وقدرات وهكذا ، وعادة ما يكون مصير هذا الخروج عن المجتمع هو الفشل! - لاحظ أننا نتحدث عن الإنسان العادي Average Individual وليس الندرة النادرة من البشر الذين يستطيعون فعل ذلك "وحدهم" - هذا فضلًا عن أن الحقيقة أن أغلب الناس ليس لديهم مواهب خارقة ومميزة تؤهلهم لموقع "البطولة" إلا الندرة.
وبالتالي يبقى المسار الأخير ، وهو موضع الشاهد ، والفكرة الأساسية التي أريد الحديث عنها وهي ما عنونه بـ :"الإطار\النظام الثقافي للبطولة في المجتمع cultural Heroism " ، وفيه يتم تعريف "البطولة Heroism" من وجهة نظر اجتماعية ، فما يعتبره المجتمع "مهمًا" ويعطيه "القيمة الأكبر" يعد هو "دور البطولة" ، هنا لا يلعب الفرد دور البطل الاستثنائي ، بل إن هناك بطلًا استثنائيًا بالفعل اعتبره المجتمع كذلك - وفقًا لمعايير عمومية بالطبع مثل الشهرة والحضور الإعلامي وغيرها - ويلعب الإنسان العادي Average Individual ، دور "الفرد الثانوي a cog" ضمن جمع هائل من الناس ، أطلق عليه إرنست لفظ "آلة إنتاج البطولة Heroic Machine"
هذه "الأطر المجتمعية" تغيش بعد أن يموت الإنسان بالتأكيد ، وبالتالي فهو يشعر بالانتماء إليها ، ويشعر أنه بمجرد الدفاع عنها قد صار "جزءًا من الآلة البطولية المجتمعية"
يقول إرنست بيكر : "يشعر الإنسان بقيمته في حالة اتبع الخطوات التي رسمتها لها السلطة المجتمعية والقوة بشكّل مضمّن في نظام الأسرة والجماعة الاجتماعية والأمة"
ويقول ما ملخصه : "لنأخذ شابًا في مقتبل العمر كعينة ، حيث في بداية حياته يشعر أنه شخص مميز جدًا ، لا يوجد ما يشبهه ، وأنه يتمتع بقدرات مختلفة وشخصية فريدة ، لكنه ومع مرور الزمن ، لم يجد شيئًا من ذلك ، عوضًا عنه وجد حياة مليئة بالمسئوليات النمطية ، والتي لا يختلف فيها عن أحد ، بدءًا من الوظيفة وانتهاء بالوصول لسن الشيخوخة ، وبدلًا من إقتناعه بأنه شخص مميز ، سيتم دمجه وبرمجته ضمن النظام المجتمعي السائد"
وهكذا يحوّل :"الإطار\النظام الثقافي للبطولة في المجتمع Cultural Heroism" الأفراد إلى مؤيدين عمي لما تفرضه الثقافة "Blind Conformist"
هذا الإطار يمتلك قدرة تفسيرية هائلة لكثير من التصرفات الاجتماعية ، مثلًا : كيف تتم صناعة "النجوم المجتمعية"؟ ، لماذا يتم حقن لاعبي الكرة بمختلف المفاهيم القومية والدعائية؟ لماذا تلجأ المجتمعات الفقيرة عادة إلى الانبهار بالمجتمعات القوية؟ ، ولماذا تنتشر أفكار مثل الفيمينزم ، والإلحاد وغيرها من الأفكار.
في الحقيقة لو تأملت ، لوجدت أن كل مثال أعلاه يمثّل "نظامًا اجتماعيًا لإنتاج البطولة!"
فمثلًا لاعبو الكرة يتم تقديهم على أنهم "سفراء لبلادهم" ويتم تقديمهم على أنهم "آلهة العصر الحديث" دون منازع ، تقف خلفهم الجماهير ، ويتم تقديمهم باسم "البطل المصري" "البطل السعودي" ، أو "البطل العالمي" ، بما أنه عصر العولمة بالطبع! ، فضلًا عن خلع معانٍ صلبة على منافسات كرة القدم وجعلها معركة حقيقية!
لم أكن أفهم يومًا الشعارات من عينة "أعظم نادي في الكون" ، "الزمالك هو حياتي" بشكل تام! ، وكنت أحاول الدخول في عقل من يعتقد هذه الأمور اعتقادًا حقيقيًا يبني عليه حياته! ، ويعتقد أن "الكرة" هي رسالته في الحياة!
لكن بعد قراءتي للنظرية التي قدمها بيكر ، فهمت كيف أن "الأدوار الاجتماعية لصناعة البطولة" قد تجعل الفرد يقول ما هو أسوأ من ذلك ، وفهمت تمامًا كيف يعمل عقل "المشجع!" ، والذي كان لغزًا حيًا لسنين طويلة من حياتي!
ولهذا تستخدم الدولة ، ووسائل الإعلام ، والشركات هؤلاء "الأبطال" لأنهم يمثلون "آلة إنتاج البطولة Heroic Machine" بالنسبة للمجتمع!
ربما هذا يفسّر كيف تحوّل "محمد صلاح" إلى "رجل الترافيك الأول" يتكلم عنه كل أحد ، مدربو التنمية البشرية ، المصريون بوصفهم شعبه ، العرب بوصفهم جنسه ، وسكّان مدينة ليفربول بوصفه لاعبًا لفريقهم ، وأخيرًا بالطبع أولئك الذين يحبّون كرة القدم!
مثلًا نجوم الفن والسينما هم أدوار بطولية أخرى ، يتم حقنها بمفاهيم النجاح والتميز ، والذي هو في عالم رأسمالي لا يتم التعبير عنه إلا "بمنجز مادي" والذي أعلاه في سلم المنجزات هو "الشهرة" وإذًا ، اكتساب الشهرة يمثّل أيضًا "آلة إنتاج البطولة Heroic Machine"
كذلك الأمر في المجتمعات الفقيرة ، وفي انتشار الأفكار المخروقة خرقًا معرفيًا واضحًا مثل الفيمينزم والإلحاد ، فكلها تمثّل "آلة إنتاج البطولة Heroic Machine" بالنسبة لمعتنقيها ، منظر "الثائر على تقاليد المجتمع" هو منظر "مقيّم اجتماعيًا" ضمن جماعات اجتماعية معينة! ، أو منظر "الثائرة على الذكورية" ، خاصة في مجتمعات ينتشر فيها الجهل ، والقمع السلطوي حيث يمكن للناس أن يجدوا في الأفكار التي لا تفترض صدامًا مباشرًا مع السلطة مهربًا "اجتماعيًا" ، وهكذا يحكم "الإطار\النظام الثقافي للبطولة في المجتمع Cultural Heroism" كثيرًا من الظواهر ، ولعلّ لهذا الحديث بقية طويلة فيما بعد عن أثر هذا الإطار في الأفكار وفي تصوّر المجتمعات المختلفة لطبيعة العمل البطولي .. لو اتسع الذهن والوقت فيما بعد.
ما أودّ أن أقوله بعد هذا : على كل واحد أن ينتبه لـ"آلة إنتاج البطولة Heroic Machine" ، وأن ينظر في نفسه وداوفعها ومدى تأثرّها بالإطار الثقافي للبطولة ، الاندفاع لتمجيد أشخاص أو أفكار لمجرد سطوتها الثقافية أو أنها "مغرية مجتمعيًا"
تصدير نموذج النجاح في لاعب كرة وفي ممثل وفي مغني وفي رجل أعمال .. إلخ هو مجرد إنتاج لمزيد من الأجيال ، تكون بدورها الرجل الثانوي a cog ولا تخرج أبطالًا حقيقين!
علينا قبل أن "نهرب إلى الوهم" -كما يقول إرنست بيكر" ، أن نحدد أولًا ما هي البطولة ، وهل النموذج الذي نتبناه وننشره للبطولة مؤسس على قيمة حقيقية نافعة ، كما عبّر عنها إرنست بيكر بصنف رابع هو "البطولة الأصلية Genuine Heroism"
وبالنسبة لنا كمسلمين فإن أعظم قيمة يمكن إنتاجها هي أن نعيش حياة متصلة تربط بين الدنيا والآخرة ، وتبذر اليوم لحصاد الغد! وأن نتخلص من القيم التي رسخها نموذج "النجاح المادي" أو "الرأسمالي" في عقول أجيالنا منذ عصر الاستعمار!
"والذين جاهدوا فينا ، لنهدينهم سبلنا ، وإن الله لمع المحسنين".