كتبت المستشرقة الألمانية الراحلة أنّا - ماري شيمّل في تسعينات القرن الماضي مقالاً في جريدة «فرانكفورتر ألغماينه» تناولت فيه الخلفيات النفسية التي ما زالت تتحكم بتصرفات الأوروبيين وسعيهم الدائم لإظهار تفوقهم العلمي والتكنولوجي تجاه العرب في عصرنا الحديث. وكان المقال بعنوان: كابوسنا العربي Unser arabisches Trauma.

وعلى رغم كل الحملات ضد العرب والحضارة العربية في الغرب، حافظ بعض الباحثين والكتاب الغربيين على موضوعيتهم العلمية في دراساتهم عن تاريخ الحضارة والشعوب العربية. فالغرب لا ينكر أن الأبجدية هي من ابتكار العقل الفينيقي العربي، وانتقلت إليه عبر اليونان. وقد وجد الباحثان الألمانيان غارينغ ونيماير أن جميع الأبجديات من أوروبا غرباً إلى حدود الصين شرقاً مشتقة من الأبجدية الفينيقية الكنعانية التي تم اختراعها في الساحل اللبناني - السوري.

لقد انتقلت الكتابة إلى الفرس بدايةً عن طريق الآراميين الذين نشروا الحرف باتجاه الشرق وصولاً إلى الهند. وتشير الباحثة الإيرانية ليلى برات زادة إلى أن الإيرانيين القدماء أخذوا الأحرف الآرامية وأضافوا إليها حروف العلة (الحركات)، وأصبحت الأبجدية التي يستعملونها تُعرف بالحرف الفهلوي.

على صعيد نشأة العلوم (الرياضيات، والعلوم الطبيعية وغيرها) يرى الباحث الفرنسي أندريه بيشو في كتابه «ولادة العلوم» أن مهد العلوم وتطورها هو بلاد ما بين النهرين، وخصوصاً في ظل الحضارة البابلية التي كانت قد بدأت حوالى 3700 ق م. فقد اهتم نبوخذ نصر الثاني الذي دام حكمه من 605 إلى 562 قبل الميلاد، بالعمران والبناء والعلوم على اختلاف أنواعها وإقامة دولة العدل استناداً إلى شريعة حمورابي التي سبقت عصره بحوالى ألف سنة. وازدهرت بابل العاصمة، وامتدت الامبراطورية الكلدانية من الهند شرقاً وحتى مصر غرباً، وشملت المنطقة المحيطة بالخليج العربي الذي سمي في ذلك الوقت بالبحر الكلداني. وخلف نبوخذ نصر بعد وفاته ملوك ضعفاء فتمكّن كورش الإخميني الفارسي من القضاء على الدولة البابلية الثانية سنة 539 ق م حينما احتل مدينة بابل واتخذها عاصمة لمملكته. وهنا يطرح السؤال نفسه، لماذا اتخذ كورش مدينة بابل عاصمةً له، بدل المدن الفارسية؟ لقد كانت بابل تتفوق على سائر المدن بالعلوم والعمران، وبالحضارة عموماً، في ذلك الزمن.

وبعد الاستيلاء على بابل عمل كورش، وهو مؤسس الإمبراطورية الفارسية، على إعادة اليهود إلى فلسطين بعد السبي البابلي على يد نبوخذ نصر. وقد وصف الرئيس أحمدي نجاد الملك كورش بـ «ملك ملوك العالم»، وذلك في عام 2010 أثناء احتفال إعادة كتابة «وصايا» كورش!

وانتهت الامبراطورية الاخمينية بانتصار الاسكندر المقدوني عليها عام 331 ق م، ومرت على الشرق عهود وعصور فعاد الفرس الساسانيون وسيطروا على العراق من القرن الثالث الميلادي حتى مجيء الإسلام.

وبعد انتصار العرب على الفرس في معركة القادسية (ثم معركة نهاوند) ودخول الفرس في الإسلام، «أخذ الإيرانيون المسلمون عن العرب الخط العربي والتذهيب بعد استجابتهم للحضارة العظيمة التي أنشأها العباسيون في بغداد». لقد استطاع العرب المسلمون الانتصار على القوتين العظميين في ذلك الزمن، الفرس والبيزنطيين، وذلك في أقل من 50 سنة وحكموا نصف الكرة الأرضية تقريباً من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وأنتجوا العلم والمعرفة في بغداد والمشرق وفي إسبانيا والمغرب. ومن اللافت أن الشعوب التي كانت ترتبط بالعرب ثقافياً - لغوياً وقومياً، أي ما يُعرف بالشعوب السامية، كالبابليين والكنعانيين والآراميين وغيرهم، اندمجت بسرعة بالحضارة العربية، وصارت تحمل مشعلها.

لقد انتشرت العلوم العربية في أوروبا وبقي البعض منها يحمل الاسم العربي، مثل الجبر والكيمياء وغيرها. وانتشرت اللغة العربية أيضاً في الجامعات الأوروبية من القرن السادس عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر. وأصبحت اللغة العربية فخراً وامتيازاً في أوروبا في ذلك الحين.

وقد أتاحت الحضارة العربية المجال لأفراد من غير العرب أن يعملوا ويُبدعوا في العلم والثقافة، والأمر لم يكن متوافراً لهم في حضاراتهم وثقافاتهم الأصلية. ونبغ البعض منهم وأصبحوا علماء عرباً كباراً. ومن أشهر هؤلاء العلماء الطبيب ابن سينا الذي ولد بالقرب من بخارى في أوزبكستان الحالية. والجدير ذكره أن الحضارات الكبرى عموماً تحتضن أيضاً علماء من أصول أخرى. فالحضارة اليونانية مثلاً كان فيها فلاسفة وعلماء كبار من أصول غير يونانية وأشهرهم زينون، مؤسس الفلسفة الرواقية.

أسطوانة كورش

ولما استولى كورش على بابل تهيّب منها، إذ قال (بحسب «الأسطوانة» المنسوبة إليه): «الآن، وبعد أن وضعت على رأسي تاج مملكة إيران، بابل والشعوب من أربع أقطاب الأرض...»، أي أنه ذكر بابل إلى جانب بلده إيران، مما يؤشر إلى أنه تهيّب من اعتبار بابل جزءاً من امبراطورية إيران، كما أن من المحتمل أنه كان يفتخر أيضاً بتسلم عرشها، فاختارها لتكون عاصمة مملكته. ثم يرد في «أسطوانة كورش» المذكورة: «فإنني أصرّح بهذا بأنني سوف أحترم تقاليد، عادات وأديان كل الشعوب في إمبراطوريتي وبأنني لن أسمح للمحافظين والعاملين بإمرتي بالتكبّر والتّرفع عليهم أو المساس بكرامتهم طالما كنت على قيد الحياة». وهنا نلاحظ تطابقاً مع منهج نبوخذ نصر في احترام الشعوب الأخرى وصون حريتها الدينية، وكذلك مع مضمون مقولته الشهيرة «الكبرياء الزائدة تدمر النفس».

ومما يُنسب إلى كورش في «الأسطوانة» أيضاً: «لن أفرض سلطاني على أي شعب. كل الشعوب حرّة بأن تقبل سلطاني أو ترفضه. لن أعتمد الحرب وسيلةً من أجل السيطرة... لن أسمح لأحد بأن يقمع الآخرين وإذا حصل هذا، سأحرم القامع حقوقه وأعاقبه... طالما كنت أنا الحاكم لن أسمح لأحد بالسيطرة على ممتلكات وأراضي الآخرين بالقوة ودون تعويض. طالما كنت حياًّ، سوف أمنع العمل بإكراه دون دفع أجور... أمنع العبودية كما أن على المحافظين والعاملين تحت إمرتي منع الاتجار بالعبيد في نطاق حكمهم... لا بد من القضاء على مثل هذه المواريث في جميع العالم».

إن هذا الكلام فيه الكثير من الاستخفاف بعقول الآخرين، وخصوصاً من قبل الذين اعتبروا هذه «الأسطوانة» بمثابة «أقدم ميثاق لحقوق الإنسان». هذا الكلام يعني أولاً أن جميع الشعوب التي حكمها كورش قد جاءته بملء إراداتها و «طيبة خاطر» وطلبت منه أن يقبل خضوعها له، ويتقبل منها دفع الجزية وما إلى ذلك. وهذا أمر لا يمكن لعاقل أن يقتنع به. ثم أن من المسلّم به تاريخياً أن كورش قاد حروباً ضارية من أجل السيطرة على بابل والبلاد التابعة لها. كما أن كثيرين من الباحثين اليهود يعتبرون أن كورش ساعد اليهود على العودة إلى يهوذا على تخوم مصر لأنه كان يريدهم أن يكونوا سنداً له حين يزحف بجيشه لمحاربة المصريين بهدف ضم أرضهم إلى امبراطوريته». أما في ما خص حقوق الملكية وأجر العمال، فإن ما ورد وطبق في الدولة البابلية من حمورابي إلى نبوخذ نصر أشمل وأكثر بكثير من ذلك. وفي ما خص «منع العبودية والاتجار بالعبيد» فإن الأمر يحتاج إلى إثبات بأن ذلك قد تم فعلاً في امبراطورية كورش، مع انه كان عليه أن يبقى داخل حدود بلاده الفارسية الأصلية وألاّ يهجم على بلاد الآخرين لو كان فعلاً يؤمن بحرية الشعوب وتقرير مصيرها بنفسها. وتجدر الإشارة هنا إلى مسألة الحق والعدل الإلهي التي ترد في الآية التوراتية على لسان نبوخذ نصر والتي هي مفهوم شامل لحقوق الإنسان.

لا نريد هنا أن نخفف من قيمة الملك كورش، فمما لا شك فيه انه كان يمتلك الكثير من الدهاء والصفات القيادية مما مكّنه من جمع القبائل الفارسية الضعيفة الخاضعة للأماديين الذين كان يخضعون بدورهم للبابليين، ويحررهم، ثم يؤسس امبراطورية كبرى ترث بابل. إلاّ أننا نعي تماماً أن كورش قد لقي تضخيماً كبيراً لدوره ومكانته في التاريخ. فمما يقال في العلماء الباحثين في التاريخ هو انهم نوعان: نوع يبحث بتجرد وموضوعية علمية كشفاً للحقائق التاريخية، ونوع آخر يكون لديه آراء مسبقة وأهداف يبحث في التاريخ من أجل تأكيدها وتحقيق أهدافه.

كثيرين من الباحثين الغربيين في تاريخ الشرق القديم كانت لديهم آراء وأهداف مسبقة. فتضخيم دور كورش من شأنه إلقاء الضوء على وجود دولة يهوذا على أرض فلسطين، وبالتالي تأكيد حق اليهود بها. إضافة إلى ذلك، إن تضخيم الحضارة الفارسية من شأنه إيهام الفرس بعظمة حضارتهم وإثارة حسهم القومي ضد العرب باعتبارهم قضوا عليها.

وأياً كانت الأسباب والخلفيات، فقد قامت بين الغرب وإيران منذ بدايات القرن العشرين علاقات وطيدة جعلت الغرب يدعم إيران في تعدياتها على العرب وحقوقهم في منطقة الخليج العربي في مراحل مختلفة. فبعد الحرب العالمية الأولى اتفقت إنكلترا مع إيران على أن تقوم إيران الشاهيّة باحتلال منطقة الأحواز العربية الواقعة على الضفة الشمالية الشرقية للخليج العربي. وهذا ما حصل في نيسان (أبريل) 1925 حيث تم القضاء على الدولة العربية الأحوازية التي كانت قائمة لأكثر من 350 سنة. وبعد بروز الولايات المتحدة الأميركية كقوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، وقيام دولة إسرائيل عام 1948 كانت إيران على صلة وطيدة معهما. وقد تبنى الغرب التسمية التي أرادتها إيران للخليج العربي. إن تشبث إيران بتسمية الخليج بالهوية الفارسية هو أيضاً محاولة منها لتبرير احتلالها للجزر الإماراتية العربية عام 1971 بعد جلاء بريطانيا عنها. وتدعي إيران أن هذه الجزر إيرانية.

إن الكلام الحاد الذي أطلقه نجاد عن العرب والحضارة العربية هو ليس كلاماً فردياً عابراً، بل يعبّر عما يفكر به القوميون الفرس الذين يعتقدون أن العرب قضوا على حضارتهم الساسانية الكبرى. ولكن، عندما يراجع المرء تاريخ العلوم والحضارة، يجد أن الفرس لم يستطيعوا إنتاج حضارة عظمى تساهم بشكل فاعل بالحضارة الإنسانية. فالامبراطورية الاخمينية التي حكمت الشرق حوالى مئتي سنة بعد سيطرة كورش على بابل، لم تكمل مسيرة بابل في الثقافة والحضارة والعلوم. وكذلك لم تنتج الامبراطورية الساسانية التي استمرت أكثر من 400 سنة في الفترة التي سبقت مجيء الإسلام مباشرةً، أي علوم أو علماء من أمثال ابن سينا والفارابي والبيروني والغزالي وغيرهم. وإذا ما أردنا المقارنة بين الامبراطوريات والحضارات القديمة في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط يمكننا القول إن الفرس والرومان يتشابهون بإقامة امبراطوريات واسعة تقوم على القوة العسكرية ولكنها من دون حضارة علمية وثقافية، بينما نجد الفينيقيين وأبجديتهم التي نشروها في العالم، ونجد البابليين، وكذلك الإغريق في ما بعد، قد بنوا امبراطوريات تقوم على الشرائع والعلوم والفلسفة.

ولما جاء الإسلام انطلق العرب شمالاً وشرقاً وغرباً، وأطلقوا النهضة العلمية العالمية الهائلة في ظل الحضارة العباسية العظيمة التي استمرت حوالى 500 سنة، وكذلك في ظل الحضارة الأموية الباهرة التي استمرت إلى أواخر القرن الخامس عشر في بلاد الأندلس. ثم تابع الأوروبيون النهضة العلمية في القرن السادس عشر حتى بلغ العالم ما بلغه من العلم والتكنولوجيا في هذه الأيام.

الخليج العربي إلى أين؟

إن الإجراءات الصارمة التي تتخذها إيران للدفاع عن التسمية الفارسية للخليج العربي، تحتم على العرب عموماً، وعلى دول الخليج العربي خصوصاً، اتخاذ إجراءات أكثر صرامة للدفاع عن الحقوق العربية في منطقة الخليج. فمن هذه الإجراءات مثلاً:

1- تغيير تسمية «مجلس التعاون الخليجي» إلى مجلس تعاون دول الخليج العربي» أو «مجلس الخليج العربي». إن تسمية كهذه تشمل نظرياً دول حوض الخليج العربي جميعها، ولكنها تقتصر عملياً على الدول العربية. إن استخدام اسم «الخليج العربي» في تسمية مجلس التعاون يحتم على الإعلام العالمي والدول والمؤسسات الدولية استخدام هذا الاسم. وتساعد قدرات العرب الاقتصادية والسياسية في تحقيق ذلك.

2- إن المجال الجوي للعالم العربي، وكذلك عدد المطارات، وعدد السكان ومستخدمي الإنترنت والمعلوماتية أكبر بكثير مما عند الإيرانيين. وهذا ما يساعد العرب أيضاً على تثبيت حقهم في خليجهم، ونشر ذلك في إعلان وإعلام الشركات العالمية.

3- الطلب إلى الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الجغرافية العالمية اعتماد معايير علمية ثابتة لتسمية الخليج الذي يقطن العرب ضفافه الثلاث. ويجب التفاهم مع المؤسسات الدولية على عدم تبني التسمية الإيرانية للخليج العربي.

إن الربيع العربي يجب أن يعني يقظة ونهضة عربية شاملة وعامة في مختلف الميادين.

إيران وعقدتها تجاه العرب

كلام أحمدي نجاد أثناء زيارته جزيرة أبو موسى العربية ذكّرني بجدال قصير جرى بيني وبين زملاء فرس في ثمانينات القرن الماضي عندما كنت أدرس في إحدى الجامعات الألمانية. وقد كانوا قوميين فرساً ومناهضين لثورة الخميني في إيران، يحقدون على العرب المسلمين ويتحدثون عن العرب بعدائية ويعتبرونهم قضوا على الحضارة الفارسية. وكانوا يتشبثون بالعلماء العرب من أصول فارسية وتركمانية مثل ابن سينا وغيره، الذين كانوا غالباً من آسيا الوسطى، وينسبونهم إلى الفرس، وكأنهم بذلك يحاولون تعزية أنفسهم ومحاولة إظهار قوة حضارتهم تجاه العرب بطريقة توحي بأنهم يعانون من عقدة نقص دفينة تجاه الحضارة العربية العظيمة التي أنجزها آلاف العلماء والمفكرين من أبنائها العرب، والتي وفّرت المناخ لبعض النابغين من شعوب أخرى كي يبدعوا ويصبحوا علماء في إطارها.

لقد بلغ نجاد في قوله أن «مزوِّري اسم الخليج لا يمتلكون ثقافة»، تطرفاً حاداً أعمى بصيرته عن الحقائق التاريخية، وأنه هو نفسه يكتب ويقرأ بأحرف الأبجدية التي اخترعها الفينيقيون الذين تعود أصولهم إلى شبه الجزيرة العربية وإلى الساحل الجنوبي للخليج العربي تحديداً. وقد نقل البابليون، وكانوا من الأموريين العرب، الحضارة والثقافة إلى الشعوب التي حكموها ومن بينها القبائل الفارسية التي لم تكن تعرف الكتابة قبل أن تتعرف إلى الحرف الآرامي العربي.

ومما قاله نجاد أثناء زيارته الجزيرة الإماراتية المحتلة، إنه «في العصور القديمة لم يكن هناك وجود لأي حكومة كبيرة في المنطقة مثل حكومة إيران، وكانت جميع الثقافات تحت سلطة حاكمية إيران». هذا الكلام يدل على أن نجاد يرى أن التاريخ قد بدأ مع الملك الأخميني الفارسي كورش الذي جمع الفرس الضعفاء فوحدهم وقادهم إلى حروب وانتصارات. وبما انه لم يكن للفرس من قبل حضارة وثقافة تُذكر، فليس من المستغرب أن يبدأ التاريخ عند القوميين الفرس مع ملكهم كورش.

بعد موت الملك القائد نبوخذ نصر الثاني وتسلم ملوك ضعفاء من بعده شؤون بابل، تمكّن كورش من التغلّب أيضاً على البابليين والقضاء على الامبراطورية الكلدانية في عام 539 ق م، ومع سقوط بابل بسط الفرس سلطتهم على الامبراطورية البابلية بمعظمها من الهند شرقاً حتى مصر غرباً. ويتضح مما يرد في تاريخ تلك الحقبة أن كورش كان شديد التأثر بنبوخذ نصر، إلى درجة أن ملك الفرس عمل على استنساخ الملك البابلي في أفكاره وسياسته وإدارة ملكه. فقد كان نبوخذ نصر يستخدم الحكمة وذكاءه ودهاءه –بدل القوة والبطش- للاستفادة من شعوب البلدان التي يحتلها. وامتاز بتسامحه الديني وحرية الفكر وكان يسمح للشعوب المحتلة بأن تعبد آلهتها ويشاركها طقوسها الدينية ويحترم آلهتها. تعرف إلى الإله الواحد يوم احتل دولة يهوذا في جنوب فلسطين، وكان يعتقد أن الله يباركه ويقوده من انتصار إلى أعظم، وقد اشتهر نبوخذ نصر بلقب مقيم المدن فقد كان فاتحاً للمدن لا غازياً لها، وساهم في نشر ديانة التوحيد، ولكنه اغتر كثيراً وأصيب بنوبة من جنون العظمة، ثم عاد إلى رشده وقال مقولته المشهورة «الكبرياء الزائدة مدمرة للنفس». وعاد إلى توحيد الله فكانت الآية التوراتية بحقه «فالآن أنا نبوخذ نصر، أسبح وأمجد وأحمد ملك السماء الذي جميع أعماله حق، وطرقه عادلة، وقادر على إذلال كل من يسلك بالكبرياء» (دانيال 4:37). وكان النبي دانيال قريباً من نبوخذ نصر يدعوه للتوحيد بالله. لقد كانت عظمة بابل تدفع نبوخذ نصر للافتخار بها والأخذ من عظمتها إذ كان يقول: «أنا نبوخذ نصر ملك بابل».

المصدر: صحيفة الحياة - جمال محمد اسماعيل