Image title

أجلسُ وحيداً على إحدى المقاعد الخشبية التي توجد على رصيف إحدى الشوارع في المدينة، أراقب المارة على الرصيف الواسع حولي، لوهلة أتأمل هؤلاء البشر الذي لا نهاية لهم، هذا الشارع الذي يجمع الكل على أرصفته، الجميع يمر من هنا، هذا أسمر وتلك شقراء، هذا طفل وذاك شيخ كهل، هذا أعزب يبحث عن فتاة ليتزوجها، وذاك رجل متزوج يبحث عن هدية يحضرها لزوجته، وآخر يسير مسرعاً ليعود إلى بيته ويرتاح بعد يوم عمل طويل، كل الذين لا روابط بينهم يمرون من هنا فيربطهم هذا الرصيف البسيط.


تتراكض ابتسامات الفتيات الجميلات أمامي، فأمعن بهن وأبحث عن ابتسامةٍ واحدةٍ نقية، أبحثُ عمن تتعثر بي أو ربما ترميني بقليل من زوايا عينيها، ولكني لا أجد شيئاً لأجدني أعود مرة آخرى منكفئاً للمراقبة في صمت، مرسلًا تنهداً عميقاً كعاصفةٍ شرسة تخترق صدري وتبعثره دون رحمة، أغوص في أعماق نفسي المُبعثرة، أحاول قراءة ما يدور في طياتها، فأراني أجري مقارنةً بين من اتخذ من هذا الرصيف مكاناً يسترجع فيه ذكريات ولحظات ممتعة وذاكرة مليئة بالفرح، وبين آخر يمر سريعاً كأنه يسابق الزمن حتى لا يتذكر ذكرى مريرة مرتبطةً بهذا المكان، وبين آخر لا يبالي فهذا الرصيف بالنسبة له ما هو إلا رصيفاً عابراً يوصله لمكان آخر.


يضجُ الرصيف بالحياة أحياناً، وأحياناً آخرى يضج بالموت كالمقابر، تصحبه تلك الأحاديث العابرة التي تمر مسرعةً مع خُطى الناس على تلك الحجارة ذات اللون الأبيض والأسود، ورغم كل هذا الضجيج يبدو المكان معزولاً عن العالم كأنه عالم آخر محايد ترى فيه الناس سواسية، الكل يسير على قدمه لا توجد تلك السيارات الفخمة المسرعة التي تحاول أن تتفاداها حتى لا تصطدم بك، وذلك الرجل الذي يبيع البطاطا بالنسبة للمارين أفضل من تلك المطاعم ذات الماركات العالمية.


أظل أراقب إلى أن ينال خشب المقعد من عظامي، وأتعب من فرط الجلوس، ويبدأ قرص الشمس المختبئ خلف الغيوم الكثيفة بمعانقة البحر، فتهب تلك النسائم الباردة على استحياء، لتخبرني أنه قد آن الأوان لعودتي إلى البيت، أسير على ذلك الرصيف فأصبح مثلهم، أنظر لهؤلاء الذين يمرون من أمامي، أحاول أن أرى صورة لروحي مطبوعة على وجه أحدهم وكأنني أعرفه منذ زمن، وكأن هناك حديثٌ خفي بيننا بدأته أرواحنا من ذي قبل، فقد يحدث هذا كله في ثوان خاطفة، حال تلاقي عيني غريبين عابرين للطريق، ربما تكون أكثر اللحظات سحراً على الإطلاق، فالغرباء العابرون جميلون للغاية، قد تنسى تفاصيل وجوههم بعد ثوان معدودة، ولكن ألفتها قد لا تمحيها الأيام.