" وداعًا أيها الغريب..

كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة...

عسى أن تجدَ جنتك التي فتشت عنها كثيرًا..

وداعًا أيها الغريب..

كانت إقامتك رقصة من رقصات الظل..

قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس..

لحنًا سمعناه لثواني هنالك من الدغل..

ثم هززنا الرؤس.. وقولنا إننّا توهمناه..

وداعًا أيها الغريب..

لكن كل شئ ينتهي"

من مقطوعته اقتبسنا كلامًا لرثاءه، كمّا اقتبسنا دومًا كلامه لنحيا، لنحب ونعِد كما أحب رفعت ماجي، لنعبرُ عن سعادتنا كخنزيرٍ بري في بركة وحلٍ أو كطفلٍ نسيه أبواه في متجرٍ للحلوى ، ولنسخر أحيانًا من الدنيا وأحداثها.

العرّاب، أحمد خالد توفيق..

لا أَعْلَمُ حقًّا من أطلق عليه ذلك اللقب. ولكنّه ما قيل إلا لأجله. حديثةٌ عهدٍ به مقارنةً بمن همّ في سني، والتقيت بِه مرةً واحدةً في زيارته الأخيرة لمكتبة الاسكندرية لمناقشة روايته قبل الأخيرة، في ممر الفئران.

أذكرُ يومها حين تراصَ الشباب كحَبِ مسبحةٍ مُحكمة النظم في انتظاره، امتلأت القاعة المخصصة، فُتحت قاعةٌ إضافية لاستيعاب الحضور المستاء. امتلأت القاعة الإضافية أيضًا ومازال الحضور يتوافد!

ثم ظهر هو من بعيد..

ظلٌ يمشي هوينًا، يقترب منّ أبنائه الذين اشتد بهم الشوق لرؤيته، تعالت الصيحات فجأة، وأُطلقت صافرات متنوعة كعادتنا وقت الانتشاء.

" أدكتووووور! "

هكذا هي، كما كتبتها، بألفِ النداء التى أصبحت جزءًا من عاميتنا المصرية. ندّت من رجلٍ فوق الثلاثين، يُرَحب به وكأنّه قد اكتفي برؤيته عن حضور الندوة.

توقف الظل وكأنّه يستجمع ما يراه، ورد التحية بأحسنَ منها، ثم مضى في طريقه.

ثم فُتحت قاعة ثالثة، لإرضاء الجمهور الذي بدأ الغضب يملأه بعد ضياع أمل الحضور منه شيئًا فشيئًا. أجيالٌ متتابعة من مُدنٍ متفرقة، يجمعها شخص واحد، كلٌ يترقب أن يتقدم الواقف أمامه خطوةً للأمام. يتنازعهم باب القاعة الذي كاد أن يقترب، وصَفٌّ طويل ينذُرُ بخُفيّ حُنين.

ولكنّه الأمل..!

" ومن يُعطينا الأمل إنّ لم يفعل العرّاب؟!"

هكذا كان السؤال، متسائلًا عن خاتمة الرواية التى قتلت أملًا كنّا نتعلقُ به طوال القراءة. ولكنّه أجاب بواقعيته الممتزجة بالسخرية كعادته الأثيرة.

" هناك من كان جريئًا كفاية لاقتحام الماضي والحديث عنه، كأحمد مراد مثلًا.

ولكننّي لستُ كذلك، لذلك فأنا أقتحم المجهول، الخيال والمستقبل. في ممر الفئران رسمتُ مستقبلًا مبنيّ على ما تراه في الحاضر. تمامًا كأنّك تمشي في طريقٍ نهايته معروفة، أو متوقعة بشكلٍ كبير. سببٌ يؤدي إليّ نتيجة!

ولكننّي مازلتُ في مجهولٍ قد يكون كما قد لا يكون!"

بتصرفٍ حاولتُ أنْ أسترجع ردَه من ذاكرتي الضعيفة، لكننّي لم أنسَ السؤال قط، من يعطينا الأمل إِنْ لم يفعل العراب!

فماذا لو رحل العراب إذًا!

تلك الغُصة التى لم أشعرُ بها منذ وفاة رضوى عاشور، قبضةٌ في القلب لأن أقرأ بالصدفة أنّه قد رحل، ثم تلاحقت الأخبار مؤكدة الخبر.

يتساقط الأحبّة من حولك، تتساقطُ أوراقهم من فوق شجرتك، فتُترك وحدك في خريفٍ دائم.

يرحلون بقطعةٍ من قلبك، يرحلون ومعهم جمالٍ كنت تراه في العالم لأنهم فقط موجودين به.

شجرةٌ خاوية على عروشها، لا تقوى على مواجهة العالم بدون لونٍ أخضر يميزها عن الجماد.

" وأنا يا رفاق أخشى الموت كثيرًا، ولستُ من هؤلاء المُدعين الذين يرددون في فخرٍ بطوليّ: نَحْنُ لا نهاب الموت. كيف لا أهابُ الموت وأنا غير مستعد لمواجهة خالقي؟!"

كنّا نخشى الموتَ مرةً يا عرَّاب، لكننا نخشاه اليوم ألفَ مرةً. نَحْنُ لا نموت حين يختارنا الموت بقدرِ ما يختار من نحبهم.

وقد اختارك اليوم، كعادته، يختار ببراعة، يختار الأفضل والأنبل والأشجع منّا.

رفعت أيها العجوز، ببدلتك الكحلية، سجائرك المشتعلة دومًا، وشرايينك التاجية المُتعبَة..

اليوم رحلتَ يا رفعت هذه المرة رحلتَ حقًّا وإلي الأبد، وحتى تحترق النجوم، وحتى ...