ومن أول السطر

نعم يا سادة، الحرفُ المكتوبُ في أول السطر دائما هو أكثر الحروف مرحًا، وأكثر اللحظات سعادةً وحبورًا، وأبعدها عن المأساةِ، ورغم ذلك، فهو أكثرها غرابةْ.

دائمًا ما تشتاق أنفسنا إلى تلك اللحظة الأولى، لحظة ما كانت الروح تتحسسُ جدرانَ الحياةِ جدارًا بعد جدار، حيث لم تَكُن وقتها مُثقَلَةً بأطنان الهموم بكل أصنافها والعذابات بكل أنواعها.

لم نكن نندم على لحظةٍ ما، أو على قرارٍ ما، فنحن لم نتجرع مرارة الحياة وقتها قط، كنا صغارًا، لا ندري عن صراعات الناس فيما بينهم، كان أقصى ما يتمنى الواحد فينا أن يلهو بالكرة في إحدى حارات المنطقة، ويا سلام لو أخذه والده ليذهب إلى حيث الأرجوحة البسيطة الموجودة في الشارع العمومي، وكانت أكثر اللحظات حزنا بالنسبة لكَ هي أن يأخذ منك أحد أقرانك اللعبة التي تلهو بها أو كيس البطاطس أو الشوكولاتة، كان الحزنُ بسيطًا والفرح بسيطًا، حتى الأحلام كانت هي الأخرى في غاية البساطة، كانت وقتها أسعد لحظات الواحد فينا هي يوم العيد، حيث جميع الناس في فرح، حيث الثوب الجديد، وقل ما شئت ولا حرج.

كبرنا قليلًا، وفي السنة السادسة في العمر تذهب كما جميع الأطفال من سنك إلى المدرسة، ساعتها تعرف معنى الطابور، الحصة، الأستاذ، الواجب، إلخ، تبدأ في التعرف على زملائك، ويصيبُكَ الإرهاقُ مثلَهُم، تماما، ويبقى هَمُّكَ البسيط هو أن تتجاوزَ مِحْنَةَ الدراسةِ بِنجاح، تترقبُ في لَهْفَةٍ تِلْكَ الساعة التي ينتَهي فيها النَصَب مؤقَتًا.. إنها الساعة الواحدة والنصف يوم الخميسِ غالبًا!!

في تِلْكَ السن الصغيرة، تَحْرِص على وُريقاتِكَ القليلةِ المتبعثِرَةِ على صَفْحَةِ حياتِكَ التي لم تَكَدْ تَنْطَلِق، دائمًا ما تَخْشى عصى المُعَلِّمِ الطاغوط غالبًا، فلا يَجْرُؤُ عَقْلُكَ الصغيرُ على الفِكْر، تَحْفَظُ دُروسَكَ في مَلَلٍ، لا تَخْشى العصا فحسب، بل تخشى عِتابَ والديكَ وسؤالهما لك، "هو فلان جاب كام!!" ثم تَبْدأ المقارنات واللوم حتى العامِ القادم.

الآن، قد صارَ الواحدُ مِنّا في المرحلةِ الإعدادية، مرحلة بداية ما تسمى بالشقاوة، مرحلة تكوين الشخصية، مرحلة الإقبال على المواجهة بقَلْبٍ جسور، تلك التي ينادونك فيها "ياض" بدلًا من "حمادة" التي كانوا ينادونك بها لصغر سنك وضآلة حجم جسدك.

وفي تلك السن تحاول البحث عن قيمك التي ترسو عليها سفينة حياتك، ورغم ذلك، تَنْسَلُّ الطفولةُ من بين عنفوانك شيئا فشيئا، غير أنها تصارع هذا القادم الجديد بكل ما أوتيَت من قُوَّة، تَنْتَصرُ في أول الأمر ثم تنسحب في آخره تاركةً وراءها هذا الذي يَعْدو في رُعونةٍ صائحًا بأَنَّهُ سَيِّدُ العقل والقلب والروح على حدٍ سواء.

ثلاثَةُ أعوامٍ مَرَّت كتلك الأعوام السِتَّةِ التي خَلَت من قبل، أَصْبَحَ التعليمُ أثقَل والحِفْظُ أَعْنَف، ولم تَعُد العصى تؤلِمُ اليَدَ فقط، أصبَحَتْ تؤلمُ العَقْلَ والروحَ على حَدٍّ سواء، ورغم ذلك، فهي مرحلةُ الشارب والذقن والصوت الرخيم، مرحلةُ المَيْلِ إلى الجِنْسِ الناعم، هي تِلْكَ التي اعتادَ عُلَماءُ النفسِ على تسميتها بمرحلةِ المراهقةِ المتأخرة، بينما أُفَضِّلُ تسميتها بمرحَلَةِ "وَحَمَلَها الإنْسانُ، إنهُ كانَ ظَلومًا جَهُولًا"!! هي مرحَلَةُ بدايةِ السِنين العجاف، التي إذا نَظَرْتَ إلى نفسِكَ في مرآة الحياة فيها، فلن تَجِدَ إلا بَسْمَةً تُخْفي وراءها شكوى مريرة، هي مرحلة الثانوية العامة.

مَرَّت هي الأخرى كما مَرَّ أقرانُها، وأَتَتْ أُخرى، يستطيعُ ظَهْرُكَ فيها تَحَمُّلَ الكثير من صُخورِ جبلِ الأمانة، صارت حياتُكَ أَعْقَدُ من ذي قبل، وخِبْرَتُكَ في الحياةِ صارت أَكْثَرْ صلابةً، أمسى فِكْرُكَ شارِدًا لا يدري أيُقْبِلُ على القادِمِ أم يَتْرُكُ نَفْسَهُ لريحِ المستقبلِ تَعْبَثُ به كيفما شاءت، أم يَلوذُ بالفِرار منه كفِرارِهِ من الأسد؟؟

وبين كُلِّ هذا، تبحَثُ أقْلامُنا عن أَوَّلِ السطر، تتحَسَّسُهُ بين جدران الذكريات، تُراقِبُ طَيْفَهُ بين ضَحِكِ فتياتِ الجامعة، تَخْشى الانبِراءَ قبل الوصولِ إلى نهايةِ كتابِ الحياةِ المكتوب بِحُروفٍ من خِبرةٍ على ألواحٍ من حياة.. ثُمَّ لا تَلْبَثُ أَنْ تُسْلِمَ الأَمْرَ إلى حيثُ تُقَدَّرُ الأقدار.