إن الإعجاز الذي يواجهه المتفلسف العربي، هو الإعجاز الذي أُسند إلى القول الفلسفي من حيث نشأته ونقله؛ فقد نسج الأوائل حول ظهور الفلسفة أخبارا وأساطير عجيبة، حتى جعلوا هذا الظهور حدثا أتى الإنسان على بغتة ونسبوه إلى فعل الآلهة بتوسط الكهنة والمتنبئين؛ ولم يكن مؤرخو الفلسفة المتأخرون أقل من الأوائل افتتانا بهذا الحدث، فما زالوا إلى حد الآن يعتبرون ظهور الفكر الفلسفي عند اليونان بمثابة المعجزة الكبرى التي تفرَّد بها اليونان وفضلوا بها على الأمم قاطبة. (١)
ولم يحمل المعجب أن يرى اختلاف الفلاسفة حد التضارب في الدعاوي والتناقض في الحجج، على أن أقوالهم مجرد ظنون واهمة، ولا في أدلتهم مجرد صروح واهية.
والغريب أنه لا تطمئن نفسه إلا إلى الفلسفة، ناظرا إلى المعرفة العلمية على أنها معرفة آلية لا شعور معها وشيئية لا أخلاق فيها، وناظرا إلى المعرفة الدينية على أنها معرفة وجدانية لا عقل فيها وتقليدية لا اجتهاد معها، حتى إذا بلغ هذا التعلق بالفلسفة من نفسه مبلغا صار إلى اعتبارها المعرفة الحقة بدون منازع، ولسان حاله يقول: "كل معرفة سوى الفلسفة مردودة".
وقد يقابل أيضا بين مذهب فلسفي مخصوص وغيره من المذاهب، فلا تطيب نفسه إلا إلى هذا المذهب المخصوص، معترضا على غيره بكونه لا يستند إلى الأصول الموضوعية أو لا يتوسل بالأدلة المقنعة أو يتوصل إلى النتائج النافعة، فيحمله شغفه بهذا الاتجاه إلى اعتباره الاتجاه الفلسفي الحق بدون منازع. (٢)
فغاب عنه أن الأصل في الفلسفة أن لا تكون على وجه واحد، وإنما على وجوه متعددة؛ ولا أدل على ذلك من تعددها بين أفراد الأمة الواحدة، حتى كادت أن تكون الفلسفات بعدد أنفاس الفلاسفة من هؤلاء الأفراد؛ فإذا كانت الفلسفة في الأمة الواحدة كذلك، فما ظنك بها وهي تدور بين الأمم في المجتمع الإنساني الواسع وليس بين الأفراد داخل الأمة الواحدة! فلا ريب أن التعدد سيزيد درجات والفلسفة ستزداد تلونات. (٣)
ومعلوم أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي، ولا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحلّه اللغوي؛ ولما كانت الألسن التي وضع بها القول الفلسفي متعددة، جاز أن تختلف المضامين الفلسفية باختلاف الألسن التي تنقلها، ومعلوم أيضا أن الأدب هو الدائرة الأولى التي تحتضن مطالع الفكر الفلسفي -فقد كان أوائل الفلاسفة قبل أفلاطون ينشئون فلسفتهم نظما، فمثلا أفكار برمينيدس كانت أشعارا-، ولا احتضان لهذا الفكر من غير تأثر يحضنه الأدبي؛ ولما كانت الآداب تتوسل بأساليب بلاغية وصور بيانية متعددة، جاز أن تنعكس هذه الأساليب والصور الخاصة على المحتويات الفلسفية بما يجعلها تختلف باختلافها. (٤)
ولذا يجوز أن يوجد في العطاءات الفكرية غير اليونانية من الاستدلالات والإشكالات الفلسفية ما يضاهي شأنا وغورا ما نجده في الفكر اليوناني ولو أنه لا يرد تحت اسم "الفلسفة"، بل قد يرد تحت أسماء وعناوين قد تدعو إلى الشك في كونية المفهوم اليوناني للفلسفة؛ ولا يقال إن شرط التفلسف هو استيفاء مقتضى العقل، لأنا نقول إن العقل، مراتب متفاوتة؛ والوقوف عند المرتبة الدنيا منها -أي النظر في الأسباب الظاهرة- كما فعلت الفلسفة اليونانية لا يلزم غيرها ما دام ينزل رتبة في العقل أعلى، هذا مع العلم بأن ما يتحقق من مقتضيات عقلية في رتبة يكون أولى بالتحقق، في الرتبة التي تعلوها؛ ويبدو أن الفكر الإسلامي واحد من هذه العطاءات التي انطوت على أدلة وأسئلة ذات صبغة فلسفية صريحة ولو لم يعرف الفكر اليوناني مثلها أو لا يتسع تصوره الفلسفي لها، نذكر منها، على سبيل المثال، بعض الاستدلالات في "علم الأصول" و "علم المناظرة" وكذا بعض الاستشكالات في "علم الكلام" و "علم التصوف". (٥)
________________
(١) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ١٢٢
(٢) الفلسفة والترجمة ٢١٧-٢١٨
(٣) القول الفلسفي ١١٣
(٤) الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ٥٣
(٥) سؤال العمل ٤٦