عانت التجربة السياسية العراقية بعد عام 2003 مشاكل جمة، كان قسم منها نتيجة تراكمات الحقبة الماضية، والقسم الآخر هو بسبب سلطة الإحتلال التي لم تراعي المصلحة العراقية في كثير من القوانين والقرارات التي إتخذتها، إضافة الى الإدارة التي شابها الكثير من الفشل للحكومات المتعاقبة.

   لعل أهم المشاكل التي عانت منها التجربة الديمقراطية العراقية، هو غياب العمل المؤسساتي في مفاصل الدولة، حيث تقاسمت الكتل والاحزاب السياسية الحاكمة مؤسسات الدولة بحسب تمثيلها الإنتخابي، وراحت تضع فيها رجالاتها والأشخاص الموالين لها دون ضابطة إدارية او إستحقاق وظيفي، وجير عمل هذه المؤسسات لخدمة الأحزاب التي تديرها، حتى إن بعض الوزارت تجدها تتحدث لغة أو لهجة وزيرها، وتجد موظفيها إبتداء من عامل الخدمة الى المدير العام، كلهم من لون معين.

   كذلك أصبحت القرارات التي تدار من خلالها الدولة بيد أناس غير قادرين على إدارة أنفسهم، ناهيك عن قيادة مفاصل مهمة في دولة أصبحت الفوضى تضرب في أطنابها، فكانت القرارات الإرتجالية ومخالفة القوانين والتضارب في إصدار التعليمات والتلكؤ في تنفيذها، ناهيك عن إنتشار الفساد المالي والإداري الذي كان محميا من رأس الهرم، أو يتم التغاضي عنه لأغراض سياسية وإنتخابية، جعل العراق دولة تديرها دول عدة ، لها نفوذ وقرارات تختلف فيما بينها بسبب الصراع السياسي.

  كان نتيجة ذلك أن وجدت لدينا دولة أحزاب متصارعة فيما بينها، ترتجل في قراراتها وتنظر الى إدارة الدولة من منظورها الخاص بها، دون النظر الى مقومات قيام دولة قوية مستقرة، تتعامل مع أبناء الوطن على أساس المواطنة وليس الإنتماء الحزبي أو الطائفي والقومي، فكانت نتيجة ذلك أحزاب كبيرة لديها جمهور عريض وبعضها يمتلك مليشيات خاصة بها، ودولة ضعيفة عرضة للمساومات والصفقات السرية، ومؤسسات حكومية غائبة عن المشهد الحكومي والإداري.

  غاب عن العراق في المرحلة الماضية رجال الدولة، الذين يبحثون عن نجاح المشروع الوطني، وإيجاد دولة عراقية قوية لها تأثيرها في الوسط الإقليمي والعالمي، وحكومة تقودها مؤسسات رصينة تحقق تطلعات الشعب العراقي،  وظهر لنا رجال السلطة الذين يبحثون عن مشاريعهم الشخصية والحزبية، فغيبت المشاريع التي تخدم الوطن وترتقي به، وكان صوت التهريج وإثارة الغبار تواجه كل مشروع وطني يهدف الى بناء الدولة والارتقاء بالمجتمع.

  إنتهت مرحلة مريرة على الشعب العراقي أمدها خمسة عشرة عاما، وأقبل اليوم على مرحلة جديدة عليه أن يستفيد فيها من تجارب الماضي، يكون فيها الالتزام بالدستور كسقف لطموحات الجميع ورغباتهم، وتقوية مؤسسات الدولة وتمكينها من مسك الدفة، وفق معايير مهنية حقيقية والإنتقال الى مرحلة الدولة القوية، فلا يمكن أن تكون دولة داخل الأحزاب، وإنما أحزاب داخل الدولة.