ش
شذى تيّم

مدة القراءة: 3 دقائق

مدرسة الغربة

لو تأملنا كلّ من تغربو لتأكدتم معي أنهم يستحقون مدرسة " الغربة" , لم أكن أعلم أن النضج يعني التخلي والتمسّك في وقت واحد. 

كنت أهرب من مسؤوليات كثيرة , كان جلدي سميكاً لا أشعر بغيري كما ينبغي , كنت أنتظر وجبة فاخرة من أمي بعد عودتها من عملها المرهق ! .كل ما أفكر فيه هو أنا , مصلحتي وصحتي وراحة بالي .

 علمتني الغربة الامتنان , أن أكون ممتنة لصوت أخوتي وهم يلعبون , أنّ القهوة صباحاً مع أبي لا تقدر بثمن , أنّ شكوى امي عن عملها هو همّي أيضاً , أنّ اختي أوفى صديقة .

أن تنضج يعني أن تعرف أنك لم تعد أولوية عند صديقك وأنّ ما في قلبك لم يعد يعني أحد سواك . 

أنت المشكلة وأنت الحل , أنت كتوم جداً هادئ جداً , قضيت أيامك مع نفسك حتى عرفتها , وعرفت كم من الشروخ في روحك لم تكن تعلم وجودها , الغربة تجعلك تبكي على مواقف قديمة كأنها تحدث الآن, أقنعت نفسك انها لا تؤثر بك , لكنك تجد نفسك وحيداً تبكي .. تبكي على تركك أمك وحيدة في الصالة , على جلوسك بينما تعد لك الطعام , على صمتك بينما كانت تبكي , على هربك من أحزان من تحب .

ستجد نفسك تحمل الوطن في قلبك أينما ذهبت , الطريق الى بيتك , الأشجار والأطفال في الشوارع , أصوات الجيران والمقاهي العتيقة, رائحة البن الطازج , صوت مفاتيح والدك ,عيون صديقك وصدى ضحكته, صوت جدتك , نسيم الصباح المنعش والشبابيك التي تتنفس , دفء أيادي الأطفال الذين تحبهم.

لكن الآن .. الأيام التي لا تتكلم فيها الا بضع كلمات كثيرة , الصبر والهدوء سِمتك الواضحة . لن يُحزنك تخلي أحد عنك , لن يحزنك كذب أحد , كلما زادت أيام الغربة زاد قلبك اتساعاً , كسفينة ضخمة لا تحمل متاعاً من الدنيا.. لا تنتظر أجراً سوى من الله  , لا يهمك من مَدحك أو ذمّك , لا يهمك من تكلم خلف ظهرك . لا وقت لديك سوى للمحبة والبحث عنها .

ستحب كل شيء حتى تغطي محبتك أعدائك , تقدر نعمة الضحك وأثر الابتسامة ,ستجد نفسك أكثر نضجاً ممن يكبرونك عمراً ,وأكثر طفولة ممن يصغرونك عمراً ! . لن تصدمك خيانة أحد  , بل  ستخلق لهم أعذاراً على خيانتهم ! كانهم أطفال وأنت شيخ كبير لا وقت لديه سوى للحب والسماح . يحسُ بغيره حتى أنه يبكي على حزن صاحبه قبل بكاء صاحبه , كل ما يهمه هو من يحب, كأنه لم يعد يجد نفسه سوى في من يُحب .

الغربة نعمة في ثوب نقمة .

تجلس أمام البحر كأنك أمام مرآة , هادئ جداً من الخارج وفي جوفك الكثير ! صافٍ وكبير ,تقع عليك الهموم  فتبلعها الى جوفك , ولا يبقى لهم أثر سوى موجاتٍ تخرج للشاطئ تفنى كأنها لم تكن ...

ستتعلق بما يشبهك , كفنجان قهوة صباحاً , كغيمة وحيدة تبحث عن صديق  فلا تجد في السماء سوى نفسها , فتنزل طلاً حزيناً نقياً على شجرة وحيدة في حديقة . برائحة عطر يعيد لك ذكريات نفسك القديمة .

حين تكون مغموساً جداً في الدنيا وأهلها تأكد أنك في غربة موحشة عن نفسك وعن الله , ابحث عن الغربة التي تجعلك تستمع لنفسك وتتكلم في نفس الوقت , التي تقلّص لك الحياة ولا تجعلك تراها سوى طريق لله وللجنة . التي تجعلك مسافر بلا زاد على ظهرك  سوى قلب سليم. 

أن تمرَّ على قرية وهي خاويةٌ على عروشها وتقول سبحان من يحي الأرضّ بعد موتها , سبحان من يهد القلب بعد الضلال. 

اللهمَّ أسكني الحب , والمواساة , الرأفة , وجبر الخاطر  واجعلني نعمة لعبادك , ويداً لعطائك , لا تقطع بي موصولاً ولا تجرّح بي مخذولاً ...

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات