مفهوم الذكورية :
الذكورية هي مصطلح لتوجه عام متمثل في سلوكيات وأفكار وقوانين وتفسيرات تسيطر على عقلية فرد أو مجتمع تقوم على الإعتقاد بضرورة هيمنة الرجل على المرأة وشرعنة تسلطه في كافة المجالات استناداً على الإيمان بفوقيته،
هذا التوجه لا يمكن أن نسميه أيدلوجيا أو تنظيم فكري مؤسس كالنسوية بقدر ما هو صورة نمطية يتم توارثها في ثقافة معينة.
وأشهر مصطلح - بمنظومية مرسومة - يمثل هذه الثقافة وهذا التوجه هو مصطلح " النظام البطريركي" patriarchal system
ما هو النظام البطريركي؟. البطريركية مصطلح يوناني ترجمته الحرفية "الأب الرئيس" و يشير إلى نظام اجتماعي ،أحد أوجهه، أن يحتل فيه الذكور السلطة الأبوية بشكل مطلق أو جزئي على الإناث لجنسهم لا لصفتهم، وتقوم هذه السلطة على علاقة هرمية تبدأ من الأب، ثم الأخ، ثم الزوج، ثم الابن، تخضع فيها المرأة لكل سلطة داخل هذا الإطار الهرمي.
في الحقيقة لا أدعم استعمال مصطلح "النظام الأبوي" لوصف هذا النوع من النظام الإقصائي لكون مفهوم الأب لدينا لا يعكس معنى قدحي بل معنى إيجابي يحمل طابع التقدير والإحترام ، واستعماله في ذلك السياق يُحور معناه ويمكن أن يجعله لصيقا بهذا المفهوم، لذا أرى أن مصطلح "الذكورية" أدق لوصف مثل هذا النظام وهذه الثقافة .
**************
جذور الثقافة الذكورية:
العقلية الذكورية لم تكن محصورة على مجتمع معين بل حضرت في العديد من المجتمعات في عصور مختلفة ومن يقرأ لبعض فلاسفة اليونان أو المهاتما غاندي كأمثلة من ثقافات مختلفة سيجد مقولات ومواقف تمثل عقلية ذكورية استعلائية وفي أحيان كثيرة متطرفة .
وبالنسبة المجتمع العربي،. فتمتد جذور الثقافة الذكورية فيه من النظام القبلي الذي يعتبر أدق ممثل للنظام الهرمي البطريركي ،
وأما التطرف الذكوري في المجتمع العربي فكانت أبرز نماذجة قد تجلت في حقبة الجاهلية حين كان منهم من يرى ميلاد الأنثى مشروع لجلب العار حتى وصلت درجة الإقصاء لديهم لتبرير قتلها طفله، وتتمثل تلك العقلية في وصف الله تعالى لهم : "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم.. الآية"
إذاً فهذا الفكر وتطرفه ليس وهماً ولا مجرد نظرية بل حقيقة مثبته سيطرت على عقول ومجتمعات على مر العصور.
**************
الذكورية والإسلام
حين نعود لأصول مفهوم الفكر الذكوري أو ما يسمى بالنظام البطريركي سنجد أن المرأة في ظله مجرد كائن تابع ليس بإمكانه إمتلاك أو اختيار ، بل تعامل معاملة القاصر، ويعطي هذا النظام للذكر سلطة على الأنثى لجنسه لا لصفته؛ فيكون للأخ السلطة على أخته ولو كان الأصغر وأحياناً للابن سلطة على أمه،
وعندما نعرض هذا الوصف على الإسلام بتجرد من أي تأثير للأعراف والعادات والتقاليد سنجد أن الإسلام جاء مقاوماً لهذا التطرف بتشريعات متوازنة تعطي للمرأة قيمتها الإنسانية واستقلاليتها الذاتية مع مراعاة وضعيتها كجزء ومكون في أسرة لا تستقيم إلا بقائد مكلف بتكاليف تتناسب مع طبيعته،
فأعطى للمرأة حقها في التملك والاستقلال المالي والاختيار في الارتباط والانفصال والاستقلالية في عامة قراراتها الذاتية، وفي نفس الوقت جعلت القوامة في الأسرة للزوج لكونه الأقدر على تحمل تكاليف النفقة والحماية كأسس للقيادة،
إذاً فالذكورية تطرفت بأن بأن سلبت من المرأة أهليتها واستقلاليتها الذاتية باسم النظام الأسري،
والنسوية تطرفت بأن تمردت على قيمة النظام الأسري باسم استقلالية المرأة،
وجاء الإسلام بينهما وسطياً بتشريعات متوازنة تراعي إنسانية المرأة وتحفظ قيمة الأسرة.
**************
لماذا أواجه الفكر الذكوري ؟
أخطر ما تمثله الثقافة الذكورية حالياً هو ظهورها باللباس الديني الإسلامي جاعلة منه غطاءً أيدلويوجيا لشرعنتها،
بعبارة أخرى، جرى تكييف الدين ليلعب وظيفة الدفاع عن الثقافة الذكورية حتى المتطرفة منها ،
وهنا تتجلى الخطورة حين يصبح هذا الفكر وتلبسه بالدين مصدر تتغذى عليه التيارات المتزندقة -كالإلحاد والليبرالية والنسوية المتطرفة- لتشويه الإسلام ومهاجمته وتصويره كخصيم للمرأة ومهيناً لها،
فيفتح بذلك باباً لفتنة المسلم في دينه.
**************
نماذج لتلبس الثقافة الذكورية بالدين :
١- تمحور الخطاب الوعظي حول المرأة.
لا يمكن أن ننكر أننا مررنا بحقبة أصبح معظم الخطاب الوعظي فيها متمحور حول المرأة حتى كاد المتلقي يظن أن النار لم تخلق الا لها في هذا المجتمع!
قد يأتي من يبرر ذلك :
-بكون المرأة عامل مهم في المجتمع وهي من تربي الأجيال فصلاحها صلاح للمجتمع،. فنقول: والرجل كذلك بذات الأهمية فهو من بيده القوامة والسلطة الأقوى والأقدر للتربية !
- بكون المرأة فتنة ،. فنقول: إن كانت هي الفتنة فالرجل هو المفتون بها فيُتقى شر الفتنة باستهداف الطرفين في الوعظ ،
- بكون المرأة ذنبها مستعظم أكثر من الرجل، فنقول: هذا في العرف الذكوري، وأما الميزان الحقيقي فهو شرع الله الذي ساوى بين الرجال والنساء في الحدود والعقاب والثواب، ولن يعجزه تعالى أن يسن للمرأة عقاباً مضاعفاً عن الرجل لكونه أدعى للإستنكار، إلا أنه ساواهما في العقاب فلا حجة لما دون حكم الله.
إذاً من يرجع لأصول مرجعيتنا الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وسيرة خلفه فسيرى التوازن في الخطاب الوعظي والدعوي بوضوح،
فالتذكير بتقوى الله في كتابه دائماً ما يستهدف المؤمنين بلغة عامة غير محصورة لجنس،
وأحاديث رسول الله ﷺ الوعظية شاملة لجميع جوانب حياة المسلم ولم نرى فيها أي غلبة لنسبة الوعظ الموجه للنساء أو المتناول لما يخصهن على ما دونه،
لذا يمكننا أن نقول أن ذاك الخطاب الوعظي المتمحور حول المرأة متأثر بالثقافة الذكورية السائده أكثر من تأثرة بسنة رسول الله ﷺ، وقد أنتج غياب التوازن ذلك تنفيراً لبعض النساء من الوعظ والوعاظ وتهويناً للذنوب على بعض الرجال وهذا نتاج سلبي يجب أن يتدارك باتباع النهج النبوي الأسلم والأعلم.
٢- تهوين ذنب الرجل مقابل تعظيم ذنب المرأة لنفس الخطيئة
ويظهر ذلك جلياً في ردات فعل المجتمع تجاه الكثير من الوقائع والظواهر؛
وأبرزها المظاهر التي تمس الأعراض والتي أصبحت محكوميتها في مجتمعنا تقوم على أساس العرف لا الشرع: فالمرأة تنتهي حياتها ومستقبلها لأي خدش في عرضها وأما الرجل فكما يقال في مجتمعنا "عيبه في جيبه".
وكلامي هنا ليس دعوة لتهوين ذنب المرأة والاستهانة بعرضها بل دعوة لتجريم ذنب الرجل وانحلاله كما المرأة بحكم "الشرع" لا العرف.
فلا نريد مجتمع يكون فيه ظاهرة كشف الوجه أدعى للتجريم من ظاهرة اللواط والسفر للحرام!
ولا نريد مجتمع يكون فيه المتحرش معذور بسبب السفور!
بل نريد إنكار قائم على شرع الله متجرد به .
٣- تأطير عادات ذكورية بالشرع رغم عدم وجودها في أصله:
مثل
• اعتبار الرجل هو القوّام على المرأة عموماً:
ففي المجتمع الذكوري يُرى أن كل رجل قوام على كل امرأة من محارمه ولياً عليها وهي ملزومة بطاعته ولو كان أخيها الأصغر وهذا جزء من الابتداع الذكوري الذي لا أصل له في الشرع،
فآية القوامة تشريع خاص بالزوج لقرائن السياق،
وهو نظام قيادي لمكانة الزوج وقدرته لا نظام تسلطي لجنس الرجل.
• وجود قوانين قضائية قائمة على أساس العرف واعتبار العرف أحد مصادر التشريع،
ومن هنا تظر لنا قوانين لم يكن لها أصل في الدين لكن تمت شرعنتها قانونياً باعتبارها جزء من عرف المجتمع، وإن كانت مسايرة الأعراف أمر محمود في بعض جوانبه إلا أنه في بعضها الآخر قد يكون شكلاً من أشكال تطبيع الظلم والجور، فالأعراف مخرجات بشرية عرضة للجور والزلل، واعتبارها مصدر تشريع قد يخرج بعض القوانين الجائرة التي تظلم الفرد وتظلم الشرع بإلصاقها به.
بعض الأمثلة على مثل هذه القوانين:
-شرعنة ما يسمى "ببيت الطاعة" رغم عدم وجود أصل شرعي لهذا القانون وتضاده مع شريعة حق الخلع.
-فرض شرط موافقة الولي على أمور تتعلق بذات المرأة ومالها وبدنها كإجراء عملية طبية أو معاملات بيع وشراء وتملك أو حق التعليم والعمل مالم تتجاوز حيثياته حدود الشرع ، وهذا الفرض قد تجاوز الشرع إلى العرف بل إلى الجور في بعضه - وقد تكلمت عن الولاية الشرعي منها والوضعي بالتفصيل في مقالة أدرجتها في المدونة -
- تخفيف عقوبة جرائم الشرف ولو كانت قائمة على مجرد الشك، وهذا فيه خروج عن الحدود الواضحة التي أقرها الشرع للزنا والقتل.
مثل هذه القوانين بعضها زال مع الوقت وبعضها لا زال حاضراً في بعض المجتمعات العربية معطيةً الذريعة للتيارات اللادينية لمهاجمة الشريعة وشيطنة تطبيقها باعتبارها قناعاً أمام تلك القوانين العرفية.
• حصر أعمال المنزل على المرأة
وحصر دور المرأة في أعمال المنزل
ومعروف من السيرة ما يحرر الدين من هذه النظرة.
عن الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ تعني خدمة أهله ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري. فقد كان رسول الله ﷺ يشارك أهله في مهن المنزل،
وكانت النساء في عهده ﷺ تشارك في أعمال خارج المنزل من تجارة وتمريض بل وحتى تفقيه للناس في الدين كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها،. وبلا شك كل ذلك في إطار الحشمة والعفة والستر.
وقوله تعالى : "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" فيعني النهي عن الخروج لغير حاجة مع التبرج باظهار الزينة ،
وأما الخروج لحاجة وباحتشام فلم ينهى عنه، ففي صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال لسودة: "قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن"
• حصر فريضة العفة والحياء على المرأة
العفة والحياء صفات مفروضة مأمور بها شرعا، لكن المفارقة هنا هو في حصرها كمتطلبات على المرأة دون إنكار افتقارها من الرجل،. وهذا لم أجد له أصلاً في المرجعية،
فالله تعالى أمر في كتابه الرجال والنساء بالعفة بلغة متساوية. فقال :"قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم". ثم قال :"وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن". وزيادة "ولا يبدين زينتهن" حكم متعلق بتشريع آخر وهو الحجاب الذي لا شك في فريضته على المرأة.
وأما الحياء فصفة إيمانية معناها أن يبتعد الإنسان عن كل ما يخدش المروءة من سلوك أو قول مستقبح شرعاً وعرفاً، وفي السيرة عُرّج على "الحياء" في رجال كعثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت صفة لرسول الله ﷺ،. وإن كان العرف السائد يراها آكد للمرأة فلا يعني أن الرجل غير ملزوم بها ولا يؤمر بها ولا يُنكر عليه التفريط فيها.
**************
ختاماً
طرح مثل هذا الموضوع ليس إمعاناً في تأجيج الصراع الجندري العقيم والذي يقاد بعقول محدودة الرؤية لا تهدف إلى أبعد من انتصار ذاتي ، وإنما الهدف هو تنقية هذا الدين مما شابه وتصفيته مما أصابة من اختلاط بعادات وتقاليد جائرة ما أنزل الله بها من سلطان حتى صيروه في مرمى الزنادقة يُرمى بما ليس فيه، فالصمت على ذلك خذلان للدين وتقوية لخصومة .