بين الفينة والاخرى نسمع خبر وفاة الصديق الفلاني او احد الاقارب والاصحاب ممن تربطنا بهم الاواصر وتجمعنا بهم المشتركات النسبية او الحزبية او السياسية او الثقافية او الدينية او غيرها , وهكذا تمضي الحياة وتنصرم الاعوام بنا وبهم ولا يبقى في الذاكرة سوى الصور والمواقف والذكريات التي تأبى الرحيل مع اصحابها الغابرين ؛ وعلى الرغم من كثرة الموتى وارتفاع وتيرة الموت بيننا الا اننا نشكك فيه ولا نتوقع زيارته المفاجئة لنا او لأحبابنا ونحسن الظن بالدهر , ونتمنى ان نعيش ويعيش الاصدقاء والاهل معنا ردحا طويلا من الزمن ؛ علهم يخففون عنا وحشة الدنيا ونكبات وتقلبات وصروف الحياة , ومن اخير قائمة الاحباب الموتى وليس اخرهم ؛ الصديق العزيز والاستاذ القدير حسين جلوب حردان المانعي الساعدي ( ابو مسلم ) والذي وافاه الاجل في بغداد / يوم الخميس 20 / 9 / 2024، إثر نوبة قلبية , بعد عطاء كبير في المسيرة الجهادية والنضالية الوطنية والفكرية والدينية والحقوقية ... ؛ ولد الكاتب والباحث حسين الساعدي في محافظة ميسان ونشأ وترعرع فيها في عقد الستينيات من القرن المنصرم ( 1967) , وتأثر بالحركة الاسلامية آنذاك وانخرط في صفوفها منذ صباه , وامن بالحركة الاسلامية الرسالية وبخط الجهاد ومقارعة الظالمين , ونتيجة لمضايقات الاجهزة القمعية الصدامية , هاجر ابو مسلم الى ايران , وكان مقربا من المحقق السيد مرتضى العسكري ونهل من معارفه الكثير وسار على نهجه في البحث والتحقيق لاسيما فيما يخص الابحاث الدينية والتاريخية والاجتماعية والفلكور الشعبي , وكذلك كان من ضمن الدائرة الجهادية المقربة من الشهيد عز الدين سليم , فقد انتمى لصفوف حزب الدعوة وهو في مقتبل عمره وريعان شبابه , وقدم الغالي والنفيس من اجل الوطن والمذهب والاسلام , ولم تبدل الغربة اخلاقه ولم تغير الهجرة طباعه الجنوبية الاصيلة , اذ كان بيته ملتقى للعراقيين المهجرين والمهاجرين , فهو دائم التواصل مع ابناء جلدته , وكان طيب النفس وكريم الطبع لاسيما فيما يخص تقديم الطعام للإخوان واقراء الضيوف بما لذ وطاب من الاطعمة , ولا زلت اذكر اننا كلما زرناه في مقره القريب من مقر فضائية بلادي في الكرادة , استقبلنا بوجهه البشوش ولسانه العذب وكلماته الساحرة وطالما ردد على مسامعنا بأن (( ثلثين العزوبية ال هله وال مرحبه )) ثم يتوسل بنا ان يطبخ لنا وبيده احيانا الاكلات التي نحبذها , حتى وان كانت تستغرق وقتا طويلا على الرغم من كثرة مشاغله ومسؤولياته وضيق وقته , فضلا عن تواضعه الجم واخلاقه النبيلة وابتسامته الدائمة وحسن ظنه بالآخرين ومساعدته لهم , ونبذه للبغضاء والكراهية والتصرفات العنصرية .
وبعد عودته الى ربوع الوطن عام 2003 ؛ عقيب سقوط النظام البعثي الغاشم , شرع بالعمل الثقافي والفكري والسياسي الجاد من اجل النهوض بالواقع العراقي عموما والعماري - الميساني- على وجه الخصوص , اذ أسس مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية في محافظة ميسان بتاريخ 15 /12 /2003 ؛ و هي مؤسسة ثقافية علمية تهدف إلى رفع المستوى الثقافي والفكري وإشاعة الحوار الديمقراطي وثقافة حقوق الإنسان وإرساء ونشر قواعد العدالة والتسامح من اجل بلورة أفكار ومشاريع استراتيجية تدعم مسيرة الإصلاح والتحول الديمقراطي في مجتمع مدني حر ينشد الحياة الكريمة ؛ و تمتلك المؤسسة اكبر مكتبة في محافظة ميسان من كتب متنوعة ثقافية وفكرية وبلغ عدد كتبها (12000) ثم ارتفع العدد فيما بعد , مع ما توفره من قاعة كبيرة للقراءة والمطالعة , وكذلك تمتلك المؤسسة مركز انترنيت ومعهد لتعليم الحاسبات واللغات , وقد أصدرت المؤسسة (34) بحثاً ودراسة حول الثقافة والحوار والديمقراطية وحقوق الإنسان وحل النزاعات وحقوق المرأة والفدرالية والدستور و الأهوار في جنوب العراق ... ؛ فضلا عن الكثير من المشاريع والفعاليات التنموية والثقافية والندوات والحلقات الفكرية .
وقد اشترك في الجمعية الوطنية عقب سقوط النظام , وعمل في وزارة حقوق الانسان , ثم اصبح مديرا لدائرة حقوق الانسان في الحشد الشعبي , وساهم في الانشطة السياسية والفعاليات الوطنية والتصدي لكل مؤامرات الاعداء , وعمل على تثبيت جذور العملية السياسية الجديدة والتجربة الديمقراطية في العراق .
وللمرحوم الموسوعي حسين الساعدي العديد من الابحاث والمؤلفات والدراسات ومنها : ولادة الرسول الاعظم , تعريف الديمقراطية , الفدرالية واقليم الجنوب.. المقومات والافاق , التعددية في العراق واثرها في كتابة الدستور واقراره , الدستور والشريعة الإسلامية , مراجعات في فكر ومسيرة الدعاة , الخطاب السياسي لدعـــــــاة إقليم الجنوب , التواصل والحوار شرط اساسي للبناء والثقافة, التعددية في العراق , ابجديات النهوض الثقافي , الهوية الوطنية في العراق , ثقافة الدعوة الاسلامية , الاقليات العراقية من العذاب الى التمكين , المعلى بن خنيس ... الخ ؛ ولديه كتاب مخطوط يعتبر من اهم الدراسات والابحاث الخاصة بطبيعة الاهوار العراقية وعادات وتقاليد اهلها , فالمرحوم حسين الساعدي يمتاز بالموضوعية والموسوعية وبالتحقيق والتنقيب عن الاثار الاركولجية و المواضيع الانثروبولجية , اذ يمتاز بطول الباع والخبرة الطويلة والمتراكمة في معرفة جغرافيا الجنوب العراقي ولاسيما الاهوار فضلا عن الاحاطة بتاريخ تلك المناطق , والغوص في اسرارها , ومعرفة عادات وتقاليد وثقافة اهل الجنوب معرفة تفصيلية , فما من كتاب او بحث او دراسة تخص تاريخ العراق والجنوب على وجه التحديد لرحالة اجانب او عرب او مؤرخين او كتاب الا وقرأها الاستاذ القدير والباحث الموسومي ابو مسلم الساعدي واستخرج منها الدفائن وازال الغبار عن معلوماتها التاريخية , فعندما تجلس معه وتناقشه في طبيعة الجنوب وتاريخه وعشائره ؛ يبهرك باطلاعه الواسع وتحليله العلمي وفكره الرصين ومعلوماته الموثوقة , ولا غرو في ذلك فلا ينبئك مثل خبير , وما تجده عنده في هذا الجانب قد لا تجده عند غيره , لأنه ابن الجنوب الاصيل وربيب الاهوار ؛ فهو أدرى بها من غيره .
ومما أعجبني بشخصه الكريم ؛ غيرته على ابناء جلدته , واعتزازه بهويته الجنوبية العريقة , وتأصيله الثقافي لكل عادات وتقاليد العراقيين الاصلاء والضاربة في القدم , وسعيه الحثيث على ربط الحاضر بالماضي ربطا أنثروبولوجيا علميا قائما على الحقائق والوقائع والمعلومات الرصينة والاثار المكتشفة , مما يعزز الهوية الوطنية ويزيح الغبار عنها ويؤكد عراقتها واصالتها ؛ الا انني قد اختلف معه في الكثير من القضايا السياسية والثقافية والمعرفية , ومع كل هذا الخلاف والاختلاف الا انه يبادلني الحب والتقدير والاحترام ؛ فالاختلاف معه فعلا لا يفسد للود قضية , فهو واسع الصدر , بعيد النظر , حليم لا تستفزه التفاهات ولا تغيظه التجاوزات من قبل بعض الحمقى والمرضى وسييء الخلق , وعندما يغضب من هذا او ذاك , سرعان ما يعفو عنهم ويبادر الى زيارتهم ومجاملتهم وكأن شيئا لم يكن .
رحلت عنا ايها العزيز كما رحل السابقون من قبلك الا ان ذكراك ستبقى عصية على الرحيل , وطيف خيالك الجميل لا يفارقنا ما حيينا ؛ وكلماتك وعباراتك التي هي اشبه بالسحر ستبقى راسخة في عقولنا , وحركاتك العفوية لا تزال تدغدغ مشاعرنا وكأنك لا زلت حيا بيننا .