يكثُر الحديث في زماننا، وفي مجتمعاتنا العربية عن الفساد بأنواعه: السياسي منه والمالي والأخلاقي... ولا يتكلم أحد بالقدر اللازم والعمق الواجب، عن أصل ذلك الفساد كله.. ونحن قبل أن نبدأ كلامنا هنا، نبغي أن نفرق بين فساد الدين وفساد التدين. ونعني بذلك أن الفسوق عن الدين فيما يعود إلى الفرد، هو غير الفسوق العام الذي يتعلق بفساد التصور والتعقل.
إن التدين الفردي في الأزمنة المتأخرة، وبسبب البعد الزماني عن عصر النبوة، قد خرج في شطر كبير منه، عن معاملة الله التي هي الأصل، إلى معاملة المجتمع والدولة، ومعاملة فقهاء المذاهب، والجماعات الدينية المختلفة. وعلى قدر هذا الانحراف في التوجه، يكون الانقطاع عن الله، الذي تغيب معه ثمار التدين، وإن أُبقي على صورته؛ بل إنه (التدين) قد يعود وبالا على صاحبه، بتحقق البعد عن الله. وهذا هو ما يؤدي اليوم، إلى كل هذا العنف الذي نراه بين أهل الدين الواحد، والذي عاد معضلة حيّرت العالمين. ونعني من هذا، أن التدين المقطوع، أسوأ من التقصير والعصيان، إن كانا مع تحقق اتصال جزئي بنور النبوة. وهذا أمر يكاد يكون مجهولا لعموم الناس، الذين ما عادوا يعلمون حقيقة ما هم عليه. ولن نخوض هنا في تفاصيل شروط تحقيق الاتصال وأسبابه، لأن ذلك سيخرج بنا عن المراد.
إن الدين الذي يؤخذ عن المؤسسات الرسمية، لا يأبه فيه الموجِّهون كثيرا بمآل العباد في الآخرة؛ وإنما همهم موافقته (الدين) لأهواء بعض الجهات (المتأدلجة على الخصوص)، أو موافقة بعض السياسات الإقليمية والعالمية.. وهذا يعني أن غاية الدين، قد صارت دنيوية في المرتبة الأولى. ولو سأل المرء نفسه: هل سأضمن -مثلا- الفوز بالجنة عند تمام طاعتي لتوجهات حكومة بلدي؟ لَداخَله بعض التردد في الجزم بالإجابة. ذلك، لأن الجنة في الآخرة ليست مخصوصة بدولة معيّنة ولا بجماعة بعينها؛ ولا هي مُقتسَمة بين دول وجماعات بعينها على معنى مخصوص؛ وإنما هي لله، يتفضل بها على من يشاء من عباده. وقد يجد المرء من جيرانه في الجنة -إن كان من أهلها- مَن كان يظنه من الخصوم والمخالفين، بحسب الاعتبارات الدينية الوضعية في الدنيا، والتي كان ربما من المتعصبين لها. وهذا، سيكون من المفاجآت التي ستطالع الناس في الآخرة، وما أكثرها!.. وعلى هذا، فعلى العبد أن يراجع معاملاته لربه، على ضوء الوحي الذي أنزله، بتجرد عن كل الاعتبارات التي ورثها من مجتمعه الضيق.
إن التدين المقطوع، هو السبب في كل الفساد الذي تعرفه مجتمعاتنا العربية، مع كونها كلها على الإسلام من حيث الظاهر. ذلك لأن الانقطاع، يُبقي على الصورة، ويذهب بالمعنى، كما هو الشأن دائما. ودين (تدين) كهذا، لا يكون إلا أجوف، فاقدا لروحه، مباينا لحقيقته. ومعه، يسهل على العبد أن يأتي كل الكبائر المنهي عنها، فضلا عن الصغائر. ومن هنا نجد مسؤولينا غارقين في سرقة المال العام، وفي ظلم الناس وقهرهم؛ وكأنهم لا يؤمنون بالآخرة وحسابها!.. ولقد وصل الفساد الآن إلى الطبقات الدنيا من الشعوب أيضا، والتي كانت إلى عهد قريب خزان الإيمان (إيمان العجائز البسيط) لدى الأمة. وهذا يعني أن الفساد قد بلغ حدا، لا تنفع معه الآن العلاجات "الموضعية" ولا الوقتية. وهذه الحال، هي ما تكون عليه الأمة قُبيل ظهور المهدي عليه السلام. والإصلاح تبعا لهذا، لا يكون إلا جذريا..
إن المرحلة التي تستقبلها الأمة اليوم، لهي أصعب من كل ما عرفته فيما قبل. وكل قياس لها على ما شهدته (الأمة) في تاريخها، هو من القصور عن إدراك المرحلة، وهو من دلالات التخلف. إن ما نتحدث عنه، ليس هو ما نراه الآن ماثلا؛ وإنما ما هو قادم، ولا عهد لأحد به!.. وإن ما يشتغل به الناس من مقارنة بين أنظمة الحكم الاستبدادية (الجبرية)، وما يطمحون إليه من أمانيهم (تصورات افتراضية)، مع إغفال لحال التدين لدى الفرد، ليس إلا مقاربات اختزالية متجاوزة، لا يمكن أن يُتوصل معها إلى نتيجة تُذكر؛ إلا ما كان من إطالةٍ لعمر الفتن فحسب؛ لأن ميدان الإصلاح هو النفوس، لا الأنظمة. والتدين الذي يُعنى به الإسلاميون في المقابل، ليس تدينا أصيلا، يبلغ به الناس الغاية من معاملة الله؛ وإنما هو تدين مقطوع، يزعم الوصل حيث لا وصل. ومن لا خبرة له بأحوال القلوب، لا يمكنه تبيّن ما نقول بسهولة، والصورة الظاهرة تعطي في عين بصيرته عكسه.
قبل مقدم المهدي، لا مجال للكلام عن إصلاح عام؛ وأقصى ما يمكن نيله من خير وطمأنينة، هو ما يجده مَن يكون على صلة بالربانيين، الذين جعلهم الله أمانا لمن يحتمي بهم في هذه الأزمنة. ونعني من هذا الكلام، أن كل حركة تريد أن تعمل للإصلاح العام، ستكون من أسباب تقوية استعار نار الفتن، ليس غير. ولا تكفي هنا النية، التي يعتمدها العوام في أعمالهم، أو العملُ على نصوص الوحي المناسبة للوضع الأصلي وللقواعد العامة؛ ولكن يتطلب الأمر علما استثنائيا بأحكام أزمنة الفتنة وما يدخل تحتها من تركيب وامتزاج؛ ويتطلب نورا يكشف حقيقة المشهد، الغائبة خلف دخان الأفكار والتنظيرات. وافتقاد ما ذكرنا، هو عينه ما يجعل كلام الفقهاء اليوم، يعطي نتائج عكسية.. لأنهم يعملون بأحكام الوضع الأصلي، في ظروف استثنائية. وهذا لا يُعد فقها بالمعنى الصحيح، ما دام الفقه هو إدراك الثوابت والمتغيرات إدراكا خاصا، على ما هي عليه في كل زمن. وهذا المعنى يدخل في معنى التجديد الديني، الذي لا يخلو منه زمان؛ وإن كان التفاوت في العمل به حاصلا، إن نحن نظرنا إلى مختلف مراحل تاريخنا كله، وقارناها بعضا إلى بعض.
إن المعلوم من الفقه الجامد الرسمي المتوارث، قد أصبح مانعا عن بلوغ ما دللنا عليه من إصلاح محدود عدديا، يُدرك بصحبة الربانيين؛ وهذا هو أصل كل تخلف للأمة عن إدراك دينها اليوم، من غير أدنى شك. وهو يشبه من يضغط دواسة البنزين، مع عدم رفعه الكوابح ..، يبغي أن يسير!.. ومع حال كهذه، فإن الجهود وإن كانت كبيرة، لا تؤتي معشار ما يُنتظر من ورائها من ثمار. ومن عرف ما أوضحنا، فإنه يكون قد عرف ما عليه فعله في هذه المرحلة. فما عليه إلا أن يختار لنفسه ما يراه نافعا له ولأمته؛ بعيدا عن تأثير التيار العام، الذي لن يأخذه إلا إلى عين الفتنة ووسطها.
لن نعرض بتفصيل، لما يُمكن أن يورده بعض الناس من مقارنة بين دولنا و"الدول المتقدمة"، التي يزعمون أنها قد حققت التقدم من غير اعتبار للدين؛ لأن ذلك السياق مختلف عما نحن بصدده، ولأن شعوبنا لم تتخلّ عن الدين بالكلّية، كما أراد لها المغرضون. وعدم إسقاط الدين من الاعتبار، مع عدم إيلائه ما يستحق من عناية في الآن نفسه، هو بعينه سبب الأزمة متعددة الوجوه، التي تكتنفنا. علينا أن نختار، وأن نلتزم بشروط ما اخترنا، وأن نتحمل تبعات اختيارنا. أما من كانت لديه الشجاعة منا لإعلان كفره، ولو بينه وبين نفسه، فإنه سيكون غير معنيّ بكلامنا؛ وسيكون منتميا إلى السياق الآخر، المخالف لسياقنا؛ ولسنا نعني به إلا سياق الدنيا التي لا آخرة معها.
إن الفساد الذي بلغ عندنا ما لم يبلغه لدى شعوب كافرة باليوم الآخر، إنما هو دليل على عدم إذن الله تعالى للأشياء بإطاعتنا. يريد سبحانه أن يُذكّرنا، بأن طاعتها لا تكون إلا بطاعتنا له، لا بغيرها. إن معاملة المسلمين للأمور، مع الغفلة عن ربهم وربها، هي ما يجر عليهم صنوف البلاء المتنامية. ولا سبيل إلى تغيير الحال، إلا بتغيير ما بالنفس، من غفلة إلى حضور. ومن حقق النظر، فإنه سيجد الدين من غير حضور، ضربا من الاستهزاء والاستهانة!.. وليس الأعمى كالبصير!..
نحن نعلم أن كثيرا من الناس لن يعجبهم كلامنا، وسيريدون أن يجربوا الحلول الديموقراطية، وما عُلِّموه من التنمية البشرية وما أفرزته العقول المعقولة التي يقلّدون؛ ولكن الأمور على هذا المنوال سارت من بداية الخليقة، حيث لم يكن يُدرك العواقبَ الناسُ إلا بعد فوات الأوان. والحكماء الناظرون إلى غدٍ في يومهم، قلة على الدوام. وكلٌّ ميسر لِما خُلق له.
(كُتب هذا المقال بعد مرور أكثر من 220 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن).