بسم الله الرحمن الرحيم
.........
أيام قلائل مضت على فراق أم حكيم رحمها الله، منذ وداعها وأنا أستحث القلم للكتابة ويأبى علي، وما ذاك إلا لِلوعةِ القلب التي ما استطاع قلمي أن يصِفها.
ذكرى ووفاء، حنينٌ واشتياق. وللحق وحسن العهد كان لابد للسطور أن تُكتب.
............
هل أبدأ من نقطة النهاية؟ أم من بداية الحكاية؟
.............
"أم حكيم -رحمها الله- وبالغ الأثر في القلب"
............
تساءلت كثيرًا، هل أبقت أثرًا في قلبي حقا؟ أم هي القلب كله؟! بعد وداعها بكتها قلوب محبيها، فكيف بي وقد قاسمتني ستة عشر عاما من الحياة!
نِعم الزوجة، ونعم الأم، ونعم المربية. ومع ذلك كله فهي نعم المرأة الصالحة المؤمنة الصابرة، (نحسبها كذلك ولانزكي على الله أحدًا).
في كفاحها الطويل في الحياة كان إيمانها القوي يظهر جليًّا، مع يقينها وحرصها على الخير.
.................
بداية الحكاية:
بعد أقل من عام على زواجنا انتقلت معي للسكن في الدمام؛ حيث مقر تعييني بوظيفتي. ومع غربتها عن محيط أهلها وصديقاتها فإنها بحبها وإيمانها وحسن جيرتها كوّنت صداقات راسخة مبنية على الخير والوفاء؛ فكان منهلها جلساتِ حفظ القرآن، ودروس التفسير، ودوريات الصحبة الخيرة.
...............
صديقة لأولادها:
في قلبها نفحات أمومة ككل الأمهات، إلا أنها فاقت تخيلاتي بجميل صحبتها لأولادنا،
تقاسمهم أفراحَهم، وتشاطرهم الهم حين يُلم الحزنُ بقلوبهم.
نصح وتوجيه، ثوابت ومبادئ، رسّخت معاني كبيرة في قلب حكيم وإخواته، و محبةً وحنانًا في أفئدتهم الطاهرة الغضة.
كان همها أن يبلغ أطفالُها العُلا بحفظ كتاب الله، سعيًا وجهدًا، دعاءًا وتحفيزًا وتشجيعا.
وكانت ترى ركائز التربية ثلاثاً: الصلاة، والقرآن، اللباس الساتر، وهذا مازرعته في قلوب صغيراتها.
................
القرآن خير صاحب:
أحبت رفقة القرآن، وتنقلت بين دور التحفيظ معلمةً متفانية، لتختمَ مشوارها بإدارة دار نورة السويلم -رحمها الله-.
في أيام الدار الأولى كان لأم حكيم -رحمها الله- أثر جلي في التأسيس، كأمٍّ حانية تُمسك بيدي صغيرها ليخطوَ خطواته الأولى، كانت تمسك بالدار رفقًا وحرصًا وحبًّا وحنانًا. سعت سعيًا حثيثًا لتثبيت قواعد وأسس متينة تنظم العمل في الدار، ليصدحَ القرآن في جنبات الدار وتتردد في جنَباتها آياته البينات.
ولم تتوقف إلا حين ألم بها المرض، ومع ذلك أبى قلبها أن يتوقف عن حب الدار وحب القرآن؛ حيث الدار نبضها، وجلُّ تفكيرها، حتى في حال مرضها حبًّا للقرآن، فكانت تتابع مجالس الذكر وتنظيم البرامج.
وقد كانت بركة القرآن في حياة أم حكيم جلية، حياتها معي زوجةً، ومع أبنائها أمًّا، ومع والدَيها بنتًا. كانت تسدد وتقارب بين الدار، وبين التزاماتها، وبيتها، وشؤون حياتها.
نعم كانت أم حكيم مثلًا يُحتذَى بحُسن تبعل لزوجها، وبرحمتها وتلطّفها لأطفالها، وبرِّها وصلتها لوالدَيها وأهلِها. قائمةً بشؤون بيتها، واصلةً لرَحمِها، متفانيةً في عملها وإدارتها لدارِ التحفيظ.
لقد رسمَت أم حكيم منهجًا واقعيًّا للمرأة المؤمنة التقية؛ منهجَ حياةٍ مع القرآن وللقرآن.
لقد رسمت منهجًا حقيقيًّا للسعي في هذه الحياة، كانت الحياة لديها كلُّها بأسرها في كفّة، والقرآن وصحبتُه في كفة أخرى.
فأبشري يا تهاني؛ فالله -عزوجل- لن يضيع أجرك.
توقفت أم حكيم عن الدار، ولكن نهر الحسنات جارٍ بإذن الله، بصماتُها، آثارها، تأسيسها، كل ذلك لن يضيع عند رب العباد.
..............
رحلة الصبر والمصابرة:
هي أقل من سنة، كانت رحلة أم حكيم مع المرض، بقلبٍ مؤمن صابر. كم من ليالٍ أغفو فيها واستيقظ، لأسمع صوتها خافتًا: "رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
لم تترك أم حكيم قيام الليل كما عهدتُها، تصُفّ قدميها بتذلل وخشوع لرب العالمين، حين أنتبه لأراها قانتةً لله منيبة، وأراها في بعض الليالي في مصلاها تصلي جالسة حين يشتد معها الألم، (وذلك كله قبل دخولها مرحلة المرض المتأخرة والصعبة).
وقد كان دأبُ أم حكيم قبل أن تصاب بالمرض أن تصلي في الليل ماشاء الله لها أن تصلي.
ومَن عرف اللهَ في الرخاء عرفه اللهُ في الشدة؛ فما كان لها أن تقوى على القيام بعد ما أصابها لولا أنه كان نبضَ قلبِها، فكانت تحب قيام الليل لله عزوجل في رخائها.
كانت تهاني تتورع عن الشكوى، خشيةَ أن ينقص أجرُها، ومع الآلام المتواصلة التي لاتنقطع في فترات كثيرة، إلا أن اليأس لم يخالط قلبَها!
كانت تؤمن أن الله الذي قدّر هذا إنما قدرّه لخَيرٍ عظيم، وألطافُ الله تتغشى القلوب المؤمنة.
................
ليلة الوداع:
قبل رحيل أم حكيم بيوم بقيت بالقرب من سريرها في المشفى، بقيتُ بجانبها اليوم بأكملِه. حينها بكيت، كنتُ أراها فاقدةً للوعي لاتعلم بحالي، لكنها وبقلبٍ ينبض محبة، تحرّكَت وأصدرَت صوتًا بكاءٍ مكتوم فعلمتُ أنها تسمعني، فأمسكتُ بيدها وقلت: أدعو الله لكِ يا تهاني، أدعو لكِ، ثم دنوت وهمستُ في أذنها: "إن شفاك الله فأنت ملكة عندي، وإن قضى الله -عزوجل- قبضَكِ إليه فستَقدُمينَ على كريم رحيم. وإنّي راضٍ عنكِ، إنّي راضٍ عنكِ، إنّي راضٍ عنكِ، وأيما إمرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلَت الجنة"، عندها سكنَت وهدأت.
خرجتُ من عندها تلك الليلة، وقبيلَ الفجر رنّ هاتفي، لأسمع صوت محدثي: "تهاني تعبانة مرة مرة".
خلَت نفسي تلك اللحظة، وكأني خرجتُ من الدنيا. عدت إلى المشفى، شعرت حينها أني لا أمشي على الأرض، كأن روحي ليست معي. دخلت المشفى، حينها خرج عبد الرحمن ومارية من غرفة أختهما تهاني يبكيان، وصوتُ أمِ منذر: "استودعتُكِ اللهَ يا تهاني،استودعتكِ الله يا تهاني".
لا إله إلا الله.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
رضينا بقضاء الله وقدره.
والحمدلله، الحمدلله، الحمدلله.
فكان آخرَ عهدي صوت رفيقتها في محنة مرضها (أم منذر ): ودعاءها، جزاها الله خير ما يجزي مؤمنةً عن مؤمنة وصاحبةً عن صاحبتها. وهي تقول "استودعتكِ الله يا تهاني".
إي والله؛ نستودعكِ اللهَ يا تهاني، نستودعكِ من لا تضيع ودائعُه.
نستودعك اللهَ إلى حين أن نلتقي في الفردوس الأعلى من الجنة بفضلِه وجودِه ورحمته.
فارقَت تهاني الحياةَ والقرآنُ يُتلى بقربها؛
أحسنَت صحبتَه في حياتها، فأحسنَ لها الوفاءَ عند مماتِها، بفضل من الله وتوفيق.
......................
أمَّ حكيم، هل لي أن أُرسل لك همسًا؟
لقد كان لوفاتِك أثرٌ في قلبي ..ولكن الأثر الأعمق حين رأيتُ جموعَ المصلين ليلة ودّعناكِ، حين سمعتُ الذِّكرَ الحسنَ لك بعد مماتك، حين انهالت علي اتصالات لا أعلم أصحابَها، إنهم أحبةٌ صادقون، اتصلو معزين فيك، داعين لك. لكنها كما قال الإمام أحمد- رحمه الله-: "بيننا وبينكم شهود الجنائز "
.......
غفر الله لزوجتي تهاني (أم حكيم)، ورحمها، ورفع درجتها في عليين، ورحم الله أمواتَنا وأموات المسلمين.
........
كتبها: منصور بن عبدالرحمن الفراج (أبوحكيم).
