علي بانافع
مجاهر التسقيط حالة مرضية إبليسية تربصية ظنية تنطلق من التعالي والأمن وتزكية النفس، يعتقد مريضها أنه قد حجز مقعداً في الجنة وأصبح يملك ختم التزكية!! فلا يكاد يمر من تحت ختمه إلا موافقاً له حائزاً ختم هدايته أو مختوماً عليه بالخروج من العقيدة والشريعة والمنهج!! ونسي قول الله تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ) [النجم: 32].
حب التسقيط والتسلط والسيطرة مرض شهوي قلبي مُزِّمِنْ، يُسِّكِرْ العقل والقلب ويُنِّسِي ما عند الله من الكرامة، ويُصِيب صاحبه بضعف الإيمان وعبادة الهوى، فإذا لم يحصل على ما يسعى إليه تفاقم في القلب قسوةً وحُجُباً ومرضاً حتى يصير لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً -وإذا حصل له مراده- أُضِيف له مرض الغضب وذلك بالمحافظة على المحصول ومعالجة المنازعين، وربما أفضى إلى الكذب والظلم فلا يفيق من سكرته إلا بعد فوات الأوان، فيعيش حسرة الفوات وندامة الخسران، لو كُشِفَ عنَّا سِتر الله لوجدتنا صرعى هذا المرض الا ما رحم ربي، كم من عالم به زَلْ، وكم من مُقَدَمٍ به ضَلْ، وكم متبوع به ذَلْ، الزهد دواءه والرضى بالله علاجه والقناعة بلسمه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119] .
سامحوني حين اختلف؟! واعلم أن بعض ما اكتبه محرج لبعض الفضلاء وهذا طبيعي لتعدد زوايا النظر، فطريقتي تختلف عنهم في التعامل مع الواقع والأشخاص، والإنسان منا يُؤخذ بالجملة وليس بالتفصيل (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) [فاطر: 45] كذلك ميزان الناس ليس التفاصيل بل الراجح، لنعيد النظر إلى مشاكلنا في الدين والدنيا بهذا المنظار سنجد حلولاً عديدة، ليس هناك حل مثالي -لا في علوم الدين ولا في علوم الحياة- شيء على حساب شيء، حتى الحرام والحلال ففي الحرام فوائد مرجوحة وفي الحلال أضرار مرجوحة، لذا الباحث عن الحل المثالي هو من كوكب آخر!! ولا يوجد إنسان مثالي بل الجميع يقع في الخطأ.
الواقع الذي نعيشه بحاجة ماسة حتى إلى القطرة التي ألقاها العصفور على نار سيدنا ابراهيم عليه السلام، وجدار الكونكريت الذي صنعناه بأيدينا لعزل أنفسنا عن الواقع وعن بعضنا يحتاج أن نُحدث ثغرة فيه ولو بأظافرنا، قد نفشل في محاولاتنا ولكن لا ينبغي أن نيأس ونستسلم ونسلم لهم الجمل بكل ما حمل، أرجو أن تفهموني لأني أرى الأُمور تسير حثيثاً إلى مزيد من التدهور والانهيار ويجب وقف هذا الانهيار عند هذا الحد، لن نرد أي يَدٍ لانتشالنا مما نحن فيه، ولست خباً ولا مغفلاً ولا درويشاً، ولا أؤمن بصحوة الضمير عند المغرورين والمنهزمين الذين باعوا القيم والمبادئ بأبخس الأثمان، كما أنني اُؤمن بأن الله أرحم بنا منا إذا تُبنا وأنبنا إليه، وأنه لابد للناس من فسحة يفسحها الله بأسباب يملكها ولا نملكها، ويُصَرِّفها كما يريد هو وعلى كل شئ قدير، المهم أن نُغَيِّر من حالنا حتى يُغَيِّر الله ما بنا كما نطقت آية معروفة وجرت وفقها سنة مألوفة، وليسامحني من يخالفني فجراحنا واحدة وعميقة ومؤلمة، فرحم الله من ضمدها أو ساهم بتضميدها ولو بكلمة طيبة، والله يقول الحق لا إله غيره ولا رب سواه: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام: 94].
في العلاقات الدائمة يحرص الأذكياء على التركيز على نقاط الإلتقاء؛ فإذا تعذرت فكن حصيفاً بعدم خسارة من حولك بجفاء اختلافك معه، والذي يعلم مدى تأثير الكلمة على من حوله تجده ناجحاً في حياته، فهو يُفكر قبل أن يتكلم، وإذا تفوه بكلمات تجد كلماته كالسحر تَسُرْ وتُسِعِّدْ من حوّله، وهنا أُحِب أن أُورد قصة ظريفة، تثبت لنا بأن الحياة لا هي بمدرسة ولا هي بجامعة بل هي كتاب مفتوح منثور لمن أراد أن يتعلم أو يُصحح أخطاءه ..
يُحكى أنّ رجلاً وجد أعرابياً عند الماء فلاحظ الرجل أن حمل البعير كَبِير!! فسأل الأعرابي عن محتواه، فقال: الأعرابي كيس يحتوي على المؤونة، والكيس المقابل يحتوي تراباً ليستقيم الوزن في الجهتين، فقال الرجل: لم لا تستغني عن كيس التراب وتنصف كيس المؤونة في الجهتين فتكون قد خففت الحمل على البعير؟! فقال الأعرابي: صدقت!! ففعل ما أشار إليه ثم عاد يسأله هل أنت شيخ قبيلة أم شيخ دين؟! فقال: لا هذا ولا ذاك بل رجل من عامة الناس، فقال الرجل: قبّحك الله لا هذا ولا ذاك ثم تُشِيِّر عليِّ !! ثم أعاد حمولة البعير كما كانت؟!
هكذا أغلب الناس لا يهمهم الأفكار وأن كانت صائبة بقدر ما يهمهم الأشخاص والألقاب المُصدِّرة لتلك الأفكار وإن كانت خاطئة، تقديس الأصنام البشرية والطاعة العمياء لكل أفكارهم وأعمالهم وأقوالهم هو سبب ضياع الأمة وتخلّفها وانحطاطها، لا تعجب كثيراً بعقلك ولا بعلمك ولا بشهادتك ولا بمنصبك ولا بجاهك ولا بما وصلت إليه، وتدبر قول الله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ) [النساء: 83].