لقيته على باب مستشفى ريف دمشق التخصصي في دوما، بعد عشر سنين قضاها بعيدا يتابع تخصصه وتدريبه ، تعانقنا بحرارة ود قديم بدأ مع أول يوم لنا في كلية الطب ، أخبرني بأنه حاول أن يزورني قبل سنتين من ذلك اللقاء ، كنت يومئذ عسكريا في دورة الأغرار في مدرسة الخدمات الطبية في حرستا ، ولم يسمح له بزيارتي ، كنا نتلقى تدريبا عسكريا صارماً، قيل لنا يومذاك : كل قطرة عرق في التدريب توفر قطرة دم في المعركة !

تبادلنا أخباراً سريعة ، و تركنا الباقي لجلسة طويلة على مائدة في مزرعته دعاني إليها مع ثلة من زملائنا من مستشفى دوما.

بعد ظهر اليوم التالي انطلقنا معه في سيارته ، في دروب الغوطة الساحرة ، أفياء ممتدة ، سواقٍ يثرثر فيها الحصى والماء بحكايا عابرة للتاريخ ، السماء زرقاء صافية ، والشمس تسطع بحنان غامر ، حدثنا عن مواسم وغلال ، وخير طافح يغمر مدينة دمشق بغير من ولا أذى، تلوت بنا السيارة في ظل أشجار الجوز السامقة وشممنا رائحة عطور فواحة من أزهار المشمش والدراق .سمعنا ألحان طيور حالمة ، و ذهبنا نحلم معها ..وفتح لنا باب جنته الغناء وقلنا ما شاء الله لا قوة إلا بالله:

ماء جارٍ ،أزهار بهيجة، بساط سندسي أخضر .

وضعت المائدة ، وعبقت رائحة الشواء ، وجرى الحديث ، وهجمت الذكريات .ذكّرتُه يوم خرج من بيته متوجها إلى كلية الطب على دراجته الهوائية يفيض حماسة وبهجة ،ويعبر بلدات الغوطة الحالمة المنتشية بعبق الزهر ونسيم الصباح :حرستا ، عربين ، جوبر ، زملكا ..كأنه ساعي بريد يبلغها سلامات الغائبين ...و ذكّرته يوم حبس نفسه في بيته في أيام العيد الأربعة ليتم رواية : (الساعة الخامسة والعشرون ) واستعدنا معاً سيرة بطلها ايتان الذي حلم بالسفر على متن سفينة ولكن الأقدار منعته في يوم سفره وألقته بدلا من ذلك في معتقلات النازية يتنقل بينها واحدا إثر الآخر و يموت كل من معه من أصدقائه ومحبيه واحداً بعد الآخر .

لم ترق قصة إيتان لبعضنا فنهايتها الحزينة لم تناسب هذا المقام البهيج ، فقلت أروي لهم من مِلَح وطرائف مستشفى دوما ، قلت لهم جاءني مريض يصرخ من الألم وكانت قد احترقت يده وسألني :أين قسم المحروقات !

وروى آخر قصة الوزير الذي جاء ليدشن افتتاح قسم جديد في المستشفى،و جيء له بالخراف لتذبح تعبيرا عن شكر جزيل ، ولكن حدثت مشكلة أغضبته، وأربكت المحتفلين، وكاد الوزير أن يغلق القسم قبل أن يفتح ، فقد ذبحت الخراف ،قبل أن يصل وتصل معه الكاميرات ، فأرسل المدير من يأتي بخراف أخرى لتذبح ويسيل دمها طازجا بين يدي الوزير !

ثم سألناه أن يحدثنا عما صنع في غيبته عن البلد عشر سنين فقال :اشتريت هذه المزرعة ، وساعدت ثلاثة من أخوتي في تعليمهم الجامعي ، وبنيت بيتاً كبيراً ،وأشعر بالرضا والحمد لله ، ومضى يحدثنا ومر الوقت ، ثم دعانا أن نحلم و نتخيل أين نكون بعد عشر سنين !

لم نتخيل أنفسنا بعد عشر سنين لأن ريحاً عاصفة هبت في تلك اللحظة واغبر المساء وأرسلت الشمس آخر خيوطها عبر غيوم تجمعت فجأة، فانقلب لونها أحمر ممتدا مع الأفق كأنه بركة دم ، فقمنا نلملم أشياءنا المبعثرة ، وطوينا أطراف الحديث .

مرت عشر سنوات ، وانكشفت مصائرنا التي أردنا أن نتخيلها ذات مساء ، لقد اتسع قسم المحروقات في مستشفى دوما حتى التهم بقية الأقسام ، ثم اتسع واتسع فدخلت فيه أحياء المدينة واحدا تلو الآخر ، ومزرعة صديقي وبيته والبلدات المجاورة ،واحدة بعد الأخرى ،

حتى صارت الغوطة كلها من قسم المحروقات !!. سالت دماء الناس طازجة تحت كاميرات التصوير !، وكان ثلاثة ممن حضروا الوليمة معنا قد تدبروا أمرهم ووصلوا إلى أحد الشواطئ وركبوا السفينة فابتلعهم البحر بعد أن هبت عليهم ريح عاصف ذات مساء أحمر مغبر ، بينما قتل أخوة صديقي صاحب الوليمة واحدا بعد الآخر !

ولا تزال دروب الغوطة وسواقيها وأشجار الجوز السامقة والمشمش والدراق تشهد وتسمع وتروي قصص الدم الذي لم يوفره العرق المبذول في ثكنات التدريب !