2009-4-17 | عبد الرحيم التميم 

لو سعى أحد الباحثين لجمع مسائل الخلاف الفقهي بين الصحابة رضوان الله عليهم، لتحصل له من ذلك مجلداً ضخماً, مسائل كثيرة كان للسلف فيها أقوال مختلفة ورؤى متعددة في فهم النصوص الشرعية, وفي عموم طريقة السلف في التعامل مع خلافاتهم قلمّا ادعى أحدهم احتكار فهم النص الشرعي, إذ إن التربية النبوية التي نشأوا عليها، غرست فيهم معاني إعذار المخالفين والبعد عن الإطاحة بهم، وما حديث (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، إلا شاهداً على هذه التربية العظيمة.

فالصحب الكرام الذين شهدوا التنزيل وصحبوا رسول الله وكانوا أعلم الناس بلغة العرب، اختلفوا في فهم هذا الحديث النبوي ثم اختلفوا بعد ذلك في الجانب التطبيقي العملي, فرأت طائفة أن تعمل بظاهر النص النبوي، سيما والنبي عليه السلام هو المشرّع, فقالت: لا نصلي العصر حتى نصل لبني قريظة ولو خرج الوقت, ونظرت الطائفة الأخرى إلى أن النبي عليه السلام إنما قال عبارته ليستحثهم على الإسراع والمسير, أما وقد حضر وقت الصلاة، فإن الله يقول (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) فصلوا في الطريق, فأقر النبي عليه السلام الطائفتين على اجتهادهم، وإن كان الصواب لدى إحدى الطائفتين.

بل ذهب بعض السلف إلى أبعد من ذلك، فقد كان أحدهم ربما تنازل عن اجتهاده ورأيه الفقهي الذي يراه موافقاً للسنة إلى قول يراه مرجوحاً رغبة في وحدة الصف وجمع الكلمة, وهذا التنازل يقتصر في الجانب العملي لا القناعة العلمية, فالصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، كان يرى أن السنة في الحج هو قصر الصلاة في منى, ولكن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يرى أداء الصلاة تامة, وعندما صلى عثمان بالمسلمين أربعاً أتم خلفه ابن مسعود أربعاً، وقال: (الخلاف شر).

لقد قدم الحُجاج من كل الأمصار والبلدان لأداء فريضة الحج وفيهم الأعراب والجهال ودهماء الناس, وكان انقسام الصحابة أمامهم في أعظم الفرائض العملية وهي الصلاة من شأنه أن يعكس صورة سلبية لصحابة رسول الله رضوان الله عليهم الذين كانوا هم قدوة الناس وأسوتهم .

وإذا أردنا أن نرصد واقع السلفية المعاصرة في بلاد الحرمين وفي غيرها ونقارنه بهذا المنهج السلفي الأصيل، وجدنا أن ثمة خللاً وقصوراً في تبني هذا المنهج إزاء عموم المسائل والقضايا الاجتهادية. ولئن كان النهج الذي سلكه بعض علماء الدعوة السلفية في توحيد الفتوى واستبعاد كل فتوى تخالف السائد في البلد أو (ما جرى عليه العمل)، خياراً ناجحاً، أدى إلى قدر كبير من الاستقرار في المجتمع المحلي آنذاك, فإن هذا النهج على التسليم بصحته، لم يعد بالإمكان انتهاجه لأسباب كثيرة، منها الانفجار المعلوماتي وتيسر سبل المعرفة والعلم وكثرة المفتين وغياب كبار العلماء الذين كانت تدين لهم الجماهير بالولاء.

وليس ثمة حل ناجع إلا بترسيخ هدي السلف الصالح في التعامل مع المسائل الاجتهادية, فكل قول اختلف حوله أئمة السلف من الصحابة ومروراً بأصحاب القرون المفضلة والمذاهب الأربعة، فلا مجال فيها للتسفيه أو التضليل أو التبديع أو اتهام المخالف بقلة الديانة.

إن الهجمة الشرسة التي طالت المنهج السلفي المعاصر وشيوخه ورموزه من قبل خصومه المذهبيين واللادينيين في ظل الأجواء السبتمبرية خلال العقد الحالي، لا ينبغي أن تشكّل حجاباً عن التقويم والمراجعة, ولا ينبغي أن نغالط الحقائق الواضحة، فنزعم أن السلفية المعاصرة لم تضق يوماً بالخلاف السائغ في مسائل الاجتهاد, فالمنصف يعلم جيداً أنه لو تجرأ أحد المشايخ عبر قناة فضائية مثلاً.. وقال بجواز أو كراهة الإسبال بلا خيلاء (وهو قول جمهور الفقهاء), أو بجواز زيارة النساء للقبور, أو قال بجواز أخذ ما زاد على القبضة من اللحية أو الصبغ بالسواد أو بغيرها من المسائل المخالفة للسائد في العرف السلفي العام، لأدى هذا الأمر إلى تطاول الشباب على هذا العالم، واتهامه من قبل بعض المشايخ وطلبة العلم بالتمييع أو التساهل أو ترك إتباع الدليل.

والشواهد على ذلك كثيرة، ابتداء من موقف بعض العلماء من القول بجواز الرمي قبل الزوال في الحج، وهو قول عطاء ومذهب أبي حنيفة, وقد رجع إليه بعض العلماء المعاصرين حالياً, وانتهاء بمصادرة كتاب الشيخ دبيان الدبيان، الذي ذهب فيه إلى قول جماهير العلماء في مسألة اللحية بجواز الأخذ بما زاد عن القبضة, ويعلم الله أني لم أذكر هذه الشواهد إلا مضطراً، لأن بعض الغيورين في ظل هجمات الخصوم من ليبراليين وغيرهم، يبالغون في تبرير كل مواقفنا العلمية والدعوية.

ربما اعتقد بعض الإخوة أن ذكر بعض الأمثلة السابقة، يشكل بُعداً تربوياً سلبياً على شباب الصحوة وعلى عموم المجتمع, فأقول هذا صحيح، وأنا ذكرته للحاجة الماسة، لإثبات أن هذا الإشكال موجود فعلاً, ولكن حبذا لو اتفقنا على حاجتنا في تقديم خطاب سلفي يبعث منهج السلف الصالح في الانتصار لرأينا الفقهي الاجتهادي، والإدلاء بحجتنا وبراهيننا دون تضليل أو إقصاء، ما دام المخالف لم يخرج عن إجماع السلف في فهم النصوص الشرعية.

لا زالت ذاكرتي الكليلة تتذكر بأسى وألم شديدين تلك المعارك الهوجاء التي نشبت بين شباب الصحوة قبيل تدشين قناة المجد الفضائية، وهو الأمر الذي أدى إلى صدور كتاب قدمّه عدد من خيار المشايخ وطلبة العلم يحذرون فيه من قناة المجد وخطورتها على المتدينين, ولم تكن المعضلة في تبني مؤلف الكتاب أو من قدمّ له من المشايخ للقول الفقهي القائل بتحريم التصوير بأنواعه، فهذا قول فقهي معتبر له وجاهته واحترامه, ولكن المشكلة كانت في تبني هذا الرأي الفقهي الاجتهادي بشكل حدي وقطعي في نازلة من النوازل التي اختلف حولها الفقهاء المعاصرون والأكثرون على تجويزها, ثم القفز لاتهام الآخرين القائلين بالجواز أو المشاركين فيها بالزيغ والانحراف والانفلات, مما أثار حالة من الاصطفافات والمعارك وحالة ذهول واضطراب لدى الشباب إزاء هذا القصف والقصف المضاد, وقد انجلى غبار تلك المعركة ولكن بقيت النفوس مشحونة ومختلفة ومتنازعة تترقب الإطاحة بخصومها عند أقرب فرصة سانحة.

إن حركة إسلامية إصلاحية تستهدف إصلاح المجتمعات, وإنقاذ الأمة من حالة التردي التي تعيشه على كافة الأصعدة، لا يمكن أن تواصل السير بشكل متماسك البنيان وواثق الخطى في وسط ظروف ومتغيرات متلاحقة ونوازل متتابعة بلا منهج سلفي رشيد يخلق فضاء رحبا للاختلاف السائغ بين أنصاره ورموزهً. (يتبع)

أوراق سلفية إصلاحية (الخلاف الفقهي 2/2)

2009-4-20 | عبد الرحيم التميم أوراق سلفية إصلاحية (الخلاف الفقهي 2/2)
إن التعامل الحاد في مسائل الاجتهاد التي اختلف حولها السلف الصالح أو في النوازل التي تباينت وجهات نظر الفقهاء المعاصرون حولها, يزرع ألغاماً مدمرة وعقبات كبرى في المسيرة الدعوية والإصلاحية, وتتجلى هذه المعوقات والسلبيات في التالي:

أولاً: أنه خلاف المنهج السلفي والإطار العام الذي كان عليه أهل القرون الأولى وأئمة المذاهب الأربعة في التعامل مع مسائل الاجتهاد, وطالب العلم الذي يطلّع ويقرأ أمهات الكتب في الفقه والحديث قراءة فاحصة ومعمقة، سيتجلى له هذا الثراء المعرفي والتنوع العلمي الذي ساد في المجتمع الإسلامي في مسائل الاجتهاد منذ عهود الصحابة رضوان الله عليهم, فمحاولة قسر الناس أو حتى شباب الصحوة على قول فقهي واحد دون إعذار للمخالفين، يعد خرقاً للمنهج الذي كان عليه سلفنا الأوائل.

ثانياً: أنه يؤدي إلى حالة من التشظي والانقسام بين العلماء والدعاة وعامة الشباب المتدين, والانشغال عن الأخطار الكبرى التي تحيط بالأمة والتشاغل عنها بمسائل ثانوية لدى بعض الفضلاء, وهي مسائل ثانوية لا في أصلها الشرعي ولا في بحث مسائلها، ولكنها ثانوية أحياناً وعبثية حيناً آخر...إذا ترتب عليها إنفاق الأوقات وحشد الطاقات لتسود أقوالنا ورؤانا، وتسفيه إخواننا وشركائنا في مسيرة الدعوة والإصلاح.

ثالثاً: أن هذا النهج يؤدي إلى ضعف مصداقيتنا أمام الشباب المتدين خصوصاً وعند عموم المجتمع, فعلى سبيل المثال كان للجنة الدائمة للإفتاء مواقف عظيمة ومشكورة في الرد على من أخطأ في مسألة الإيمان، وقال بقول المرجئة في إخراج العمل عن مسمى الإيمان أو في حصر التكفير بالجحود والتكذيب, وقد أطفأ الله بمواقف هؤلاء العلماء الأكابر فتنة كادت أن تضرب التيار السلفي في أعماقه.

ولكن في الوقت نفسه، فإن مصداقية فتاوى اللجنة الدائمة قد تضعف لدى المتلقين وحتى لدى الأشخاص المردود عليهم، إذا اطلعوا على فتوى اللجنة الدائمة في منع كتاب الشيخ دبيان الدبيان في اللحية ومصادرته ووصف مؤلفه بإتباع الأقوال المهجورة المخالفة للسنة، لمجرد أنه قال بقول جمهور الفقهاء بجواز الأخذ بما زاد عن القبضة, وأرجو ألا يغرق القارئ الكريم في هذا المثال، وإنما المراد أن اتخاذنا ـ كدعاة وطلبة علم ـ مواقف حادة تجاه مسائل اجتهادية اختلف حولها السلف يضعف مصداقيتنا لدى المتلقين، مما يؤدي للتشكيك بمحددات خطابنا الدعوي وثوابته, ولعل هذا الملحظ كان سبباً لتسلل فئات من الشباب المتدين من محيط التدين والدعاة إلى التيارات التغريبية، وهذا اذكره تفسيراً للظاهرة لا تبريراً لها.

رابعاً: اختلال توازن خطابنا الدعوي وانحراف بوصلة جهدنا الاحتسابي, إذ أن هذا النهج لا يعطي عند النظر إلى المنكرات والمحظورات حجمها الطبيعي الذي أولته إياه الشريعة، وذلك بتضخيم ما هو مختلف في تحريمه والمفاصلة عليه, مع الغياب التام عن التصدي لمنكرات لها أثر كبير على دين الناس ومعاشهم, وهذا يتجلى في اغتفار تقصير العديد من أهل العلم إزاء معضلة الاستبداد وقضايا الأمة الكبرى في فلسطين والعراق وغيرها من جهة, وفي الجهة الأخرى المفاصلة وإثارة المعارك إزاء فتوى في مسائل اجتهادية والتي وإن سلمنا بمشروعية الرد على أصحابها وتفنيد أقوالهم، إلا أن الزوابع المثارة حولها لا تتناسب مع حجم المسألة المثارة لا في جانبها النظري ولا العملي.

والسير على منهاج السلف في الموقف من المخالف يقتضي ألا نسوي بين المحرم المتفق عليه, والمحرم المختلف فيه، سيما في قضايا النوازل, ولو أردت أن أسوق مثالاً حياً فإن لي أن أضرب المثال بموقف الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله من التصوير وحكم ظهور الدعاة على شاشة التلفاز, فالشيخ رحمه الله كان يرى تحريم التصوير بأنواعه ومع ذلك فعندما سُأل عن حكم ظهور الدعاة في التلفاز عدّ ذلك من أعظم أسباب نشر دين الله والرد على أهل الباطل.(مجموع فتاوى بن باز في العقيدة 2/817).

وأيا كان السبب الذي لأجله أباح الشيخ عبدالعزيز لمن يرى جواز التصوير الظهور في التلفاز فإن الشاهد أن فتوى الشيخ عبدالعزيز تبين تفهمه لهذا الخلاف السائغ بعيداً عن نهج الآخرين الذين نهجوا اتهام القائلين بالإباحة بالتساهل أو بالتفريط وقلة الديانة وهذا النهج "البازي" مع المخالفين قليل عند العديد من الفضلاء وطلبة العلم, ربما ظن بعض القراء أني بالإسهاب في هذه النقطة أقلب أدراج التاريخ المغبرّة, وابحث فيما انتهى فيه البحث إلى الجواز لدى الأغلبية الساحقة, والحقيقة أني ضربت هذا المثال للتوضيح, وإلا فواقع التيار السلفي العام تجاه مسائل ونوازل عديدة يشكّل ألغاماً تعترض طريق السائرين, والمشهد يعاد عرضه في مواقف وأماكن أخرى إذ أن الخلل في التعاطي مع مسائل الاجتهاد منهجي وليس محصوراً في هذه المسألة أو تلك.

ينبغي أن يوقن السلفيون الغيورون أن حالات الاضطراب المنهجي التي طالت أعداداً من الدعاة والانتكاس الفكري والسلوكي الذي طال طائفة من الشباب المتدين سوف يزداد ويتوسع إذا ما قابلنا هذه الظاهرة بالتبرير لكافة محددات خطابنا الدعوي والعلمي واكتفينا بالحديث العام النظري من أن الخطأ لا تسلم منه حركة أو تيار بشري, فالاكتفاء بموقف "الممانعة" لن يجدي نفعاً بل سيفاقم المشكلة, فالشباب المتدين سيطّلع على كتب الفقه المقارن وأقوال الفقهاء المعاصرين في هذه النازلة أو تلك, وسيكتشف

أننا كنا نقصي فلاناً وفلاناً لأنه قال بقول فقهي قد قال به جمهور السلف أو جمهور الأئمة الأربعة...وعندها ستتجاوز ردة فعل ذلك الشاب وأمثاله من المتعلمين رد موقفنا من هذه المسائل الاجتهادية إلى التشكيك في ثوابت خطابنا الشرعي والدعوي ابتداء بمسائل توحيد العبادة ومروراً بتوهين عقيدة الولاء والبراء وانتهاء بتهميش حاكمية الشريعة والإزراء بالمنهج السلفي ومحدداته, أو الانتقال للتيارات الإسلامية الحديثة التي نكصت عن المنهج السلفي في الدعوة والإصلاح.

لقد آن الأوان لرجال الدعوة السلفية في بلاد الحرمين وكافة الأمصار، أن يرفعوا راية الاجتماع والالتفاف حول ثوابت الشريعة وموارد الإجماع, ولندع شيوخنا وشبابنا المتطلّع للعلم والمعرفة ليستنشق هواء بحبوحة الشريعة, وفضاء الاختلاف الفقهي السائغ, ولنعلّم هذا الجيل احترام أهل العلم وإحسان الظن بهم, ولنلقنه منهجية السلف التي تمنح لمن كان له الأهلية العلمية الحق في النظر النصوص والترجيح لما يظن أنه أقرب للدليل دون تسفيه أو تضليل أو إطاحة بالمخالفين, وتعلّم غير المتخصص أو من قصرت حصيلته عن الأهلية العلمية، أن يقلد من يثق بدينه من العلماء، دون تتبع للرخص وانتقاءٍ للأقوال والفتاوى تشهياً فقد علمنّا المنهج ذاته أن تتبع الرخص "زندقة".

بهذا المنهج السلفي الأصيل، سوف نجنب الصحوة وقافلة الإصلاح والتغيير العديد من المعوقات والانشقاقات, ونبطل ألغام التشظي والانقسامات, وإذا كان ثمة رؤوس شابت على خلاف هذا النهج المبارك, فلا أقل من تربية أجيالنا الحالية ونشر الوعي بين شبابها على هذه المنهجية السلفية الأصيلة.