Image title

علي بانافع

     هل عقلك مصنوع؟! هناك حقيقة لا يختلف عليها اثنان وهي أن عقولنا منذ الولادة تتشكّل بطريقة لا خيار لنا فيها، يملؤها الآخرون بما يرونه هم ضرورياً وصحيحاً وعند النضوج تجده لا هو ضروري ولا هو صحيح ولا هم يحزنون، نعم عقولنا قد تتشكل من ثقافة اجتماعية أو إدارية أو تربوية فيها أشياء صحيحة ولكن فيها كثير من الخلل والغلط والضلال، خذ بعض النماذج الامثال الدارجة التي تُرسخ لقواعد وفهوم اجتماعية مغلوطة وضالة وعدوانية هل فحصتها وتأملت ما فيها من الحق والباطل؟! أم أننا نسردها كما سمعناها؟! على أنها نصوص قطعية تمضي وفق هدايتها، خذ مثلاً قولهم: (إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب) هذا مثل في ترسيخ حياة الغاب العدوانية منزوع منه كل تعاليم الإسلام، وخذ مثلا: (الأقارب عقارب) أين هذا من توصية الله تعالى بذوي القربى، وخذ مثلاً: (تمسكن حتى تتمكن) أليس فيه ترسيخ للأخلاق الانتهازية والنفاق الاجتماعي، ومثال آخر: (اتق شر من أحسنت إليه) والله تعالى يقول (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34].

     ويمكن سرد نماذج أخرى ثقافية كالأحاديث الضعيفة والموضوعة والقصص التاريخية المزيفة والحكايات الاجتماعية الخيالية، ومبالغات الآباء في سيرهم الذاتية حيث فيها كثير من الكذب والاضافات بقصد اقتداء الأبناء بهم، وربما كان للأفكار والعقائد سواء كانت دينية أو علمانية، قومية أو وطنية، يمينية أو يسارية الأثر الأعظم في صياغة عقولنا، والنتيجة أن عقلك مصنوع لم تكن له حماية جيدة يوم نشأ، ربما كان الوالد أُميِّاً أو مشغولاً بالعيش فترك عقول ابنائه للبيئة الجاهلة والثقافة الفاسدة والعادات السيئة والصحبة المنحرفة، نحن أمام عقل مصنوع لم يساهم صاحبه في صناعته بل البيئة الاجتماعية والشارع والسوق، والأقارب والأصدقاء، وربما المناهج الدراسية، ووسائل الدعاية والإعلام أو الوعاظ الجهلة الذين يروون الروايات بلا زِمام ولا خُطام، أو القصص التاريخية المزورة، كما ساهمت الأغنية الماجنة والفن الهابط والمسلسلات السخيفة، التي يصوغها مجموعة من الفاسدين من الكتاب والمخرجين، كل هذه المؤثرات هي التي صنعت عقولنا ومشاعرنا وحددت لنا أفكارنا وقناعاتنا ومبادئنا كما حددت لنا أعداءنا وأصدقاءنا، وهذا أخطر ما فيها بدون اختيار منا، فأصبحت لدينا مواقف سلبية وأحقاد وشكوك بكثير من الناس، وفقاً لما زُرع في عقولنا من قناعات وأفكار وأوهام مبنية على رمال ونشارة أخشاب هشه تسقط ويتهاوى بنيانها بأدنى محاورة عقلية، إذن نحن بحاجة إلى إعادة تشكيل عقولنا من جديد لنرى العالم كما خلقه الله لا كما تراه عقولنا التي لم نصنعها نحن إنما صنعها لنا غيرنا.

     وهنا ينبغي أن نميز بين المتعلم والمثقف، فالمتعلم هو من تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق تشكيله العقلي وإطاره الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره، فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضِيِّق مجال نظره؛ فحين يختلف الناس في رأي نجدهم لا يتوصلون فيه إلى اتفاق مهما طال الخلاف بينهم، ومن عادة المتعلم أنه يبقى مُصراً على رأيه ولا يحب أن يتنازل عنه؟! فما دام قد جاء بأصح الآراء فلابد أن يدافع عنه في سبيل الحق والحقيقة، وهو يخشى أن ينخذل فيقول الحاضرون عنه أنه ضعيف!! إن الرأي يصبح عند ذلك جزءاً من عقله وفكره بل وشخصيته وهو يعد نجاح الرأي نجاحاً له بالذات، ولهذا نراه يحاول أن يؤيد رأيه بكل برهان يخطر بباله مهما كان تافهاً، فيستمر الخلاف طويلاً ولولا الملل لتمادى الخلاف إلى ما لا نهاية له،  هذا المتعلم قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرِّضه على الكفاح في سبيله، أما المثقف على العكس من ذلك تماماً فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب منها، ومما يؤسف له أن المثقفين بيننا قليلون والمتعلمين كثيرون، ومتعلمونا قد بلغ بهم غرورهم بما تعلّموه مبلغاً لا يحسدون عليه، وهذا هو السبب الذي جعل أحدهم لا يتحمل رأياً مخالفا لرأيه. 

     النتيجة أن صناعة العقول وتشكيلها أشدُّ ضرراً وأكثر خطراً من صناعة الأجساد وبناءها، فحين تَجْبُرُني وتُكْرِهُني قسراً إلا أن يكون رأيي كرأيك، وحبي كحبك، ومذهبي كمذهبك، هذا نوع من تشكيل العقل وصناعة الفكر، إن إلزام الناس جميعاً باعتناق رأي واحد وقول واحد ومذهب واحد هو إرهاب فكري، ولا يكون هذا ولا يُصار إليه إلا في المعتقدات القطعية الدليل والدلالة، والأحكام الشرعية التي لا تحتمل إلا معنى واحداً أو تلك المُجمع عليها، الإرهاب الفكري ليس في الدين فحسب، بل وفي الحياة، ولا يعني أننا نفصل الدين عن الحياة كلا فالإسلام دين ودولة، عبادات ومعاملات، سياسة واقتصاد، والإرهاب الفكري  أن تَجْبُرَني أن أكون معك ضدَّ أو مع وإلا أقمت عليَّ الجهاد وأجزت الكذب لإسقاطي، وأبَحْتَ دمي وعرضي وأرضي ذلك ما نَمُجُّهُ ونَلْفُظُه ونَكْرَهُهُ ونَمْقُتُه ونُحذِّر منه ..