يوماً ما أخبرني صديق بكل صدق و صراحة و بساطة أنه عدمي .. و أن العدمية هي مبدأ أساسي في حياته ينتهجه و يتبعه في معظم قراراته.

وقتها كنت في مقتبل العمر , زاهية , مليئة بالحب و الأمل و الحياة و كانت الدنيا بأكملها مشرقة بعيني وملونة ..فصمت قليلاً ثم أجبته بنفس التلقائية و البساطة: لا أحب العدمية و لا العدميين . قلتها على إستحياء حتى لا أجرح مشاعره بقصد أو بدون.


الآن و بعد مرور سنوات , تذكرت الموقف و تذكرت كلامي و كيف كان منظوري للحياة مختلف. علمت وقتها أن صديقي آنذاك الذي كان يكبرني بحوالي 7 سنوات محقاً.. لقد عاش و رأى ما لم أكن رأيته وقتها و تطورت أفكاره لينتهي عقله إلى الإيمان بالمبدأ الأكثر مصداقية و له معنى في هذه الحياة.


أنظر لنفسي في المرآة و أتساءل متى مرً بي العمر و متى كبرت كل هذه السنوات ... أتأمل أفكاري و قناعاتي و كيف إنضربت في مقتل مع كل موقف و كل حدث

إنهارت قلاع أفكاري أمام عيوني و تدمرت حصون قناعاتي التي طالما آمنت بها.


و الآن صِرت بمواجهة الحقيقة وجهاً لوجه.. هذه الحرب التي كنت أطوق لها و أنا على يقين تام بأني سأنتصر بها و يتوج نصري هذا شعوري بالمجد و الفخر و سأتطلع إلى السماء حينها رافعة الرأس منتشية بفرحة الإنتصار.


أقف على الجبهة الآن .. تدق طبول الحرب و ينتفض معها قلبي , يخفق بقوة شديدة و سرعة مبالغ فيها حتى أشعر بأنه سيتوقف في أي لحظة و يبدأ طوفان الأفكار يغمر عقلى عن كيفية مواجهة لحظة النهاية و إستقبال الموت.


ياله من شعور, يقف شعر رأسي و يتجمد الدم في عروقي .. ألتفت يميناً و يساراً أبحث عن إيماني بنفسي و بقدراتي فأفاجأ بأني قد فقدت إيماني و هرب منى على مرأى و مسمع من الجميع .. أتأمله راكضاً بالإتجاه المعاكس تارك كل ما سكن يوما –تارك عقلى و قلبي و جسدي – الذي أصبح واهناً بفقد إيمانه بنفسه.


أتحاشى فياضانات الأفكار التي تضرب برأسي و أبحث في أعماق عقلى عن هذا الحلم , عن النصر و يقيني بالانتصار , عن شوقي لشعور الفخر و المجد ... فأجدني ألاحق سراباً. فقد ألحد عقلى و فقد قلبي و جميع أنحاء جسدي يقينهم بهروب الإيمان.


الآن, في هذه اللحظة بالذات, اللحظة الحاسمة و أنا على أرض المعركة و الحرب قد بدأت و لا سبيل للخروج إلا بالهرب أو المحاربة و الإنتصار.


العدمية.. تتردد الكلمة في رأسي مثل لحن أغنية يعلق برأسك في لجنة الإمتحان و كلما حاولت التخلص منه لتتذكر إجابة السؤال يزداد قوة و يعلو صوته


لقد كان محقاً .. صديقي هذا الذي لم يعد صديقي .. العدمية – الحقيقة التامة – التي لم أراها منذ سنوات و كانت أحلامي تداريها كستارة تحجب نور الشمس عن الغرفة لتظل معتمة و تظل مؤمنة بأن الليل مازال هنا و لم يشرق النهار بعد.


وها أنا ذا .. إتباعاً لسياسة اللحظة الأخيرة.. أستمر في تأجيل المواجهة شيئاً فشيئاً حتى أجدني أواجه العالم بيدين فارغتين و عقلِ مُشتت و قلب يرجف خوفاً و ذُعراً و جسد واهن أضعفته النفسية المحطمة ولكن أجبِره أنا على الوقوف.


طوال حياتي ظللت واقفة في مكاني أنتظر ... أنتظر المساعدة (سوف يأتي أحد و يساعدني و يقف لي و يدافع عني و يحارب معي)

أنتظر الحماية (سوف يأتي من يحميني و يدفع عنى السوء و يعمل من أجل أماني)

أنتظر السعادة (سوف يأتي من وجودهم يشعرني بالسعادة و البهجة و يكونوا مصدر لفرحتي)

أنتظر أن تصبح الأمور سلسة و أن تصبح الدنيا أسهل و أن يصبح العالم خيراً و أن يصبح البشر متحابون

أنتظر و أنتظر حتى أجدني أسقط مرة و يُدفع بي داخل معارك لا تخصني مرة و يتساقط علىً الهموم و الأحزان و أُجبر على حملها


لتكتشف أنه لا جدوى من الإنتظار.. فلن يأتي أحد ليساعدك أو يحميك أو يسعدك


لن يساعدك أحد سواك و لن يدافع عنك غيرك و لن يسعدك سوى نظرتك المختلفة للأمور .. فالحياة تسير و لا تسألنا عما نريده بل تفعل ما تشاء و علينا نحن أن نحاول أن نتناسق معها و نلحق بها.


لن يقف لك أحد ليحارب عنك بل ستقف أنت واهناً ضعيفاً مدمراً نفسياً و لكن ستقف


فالبحر من أمامكم و العدو من خلفكم ولا سبيل للهرب  .. ستقف تحارب و تدافع مهما كلفك الأمر


فهذه المعركة ستكلفك حياتك في جميع الأحوال

أن تموت محارباً خير لك من أن تموت هارباً