يُحادثني بعض أصدقائي هذه الأيّام، عن أيّامهم الأخيرة في الدّراسة قبل البدء في مشروع ختم الدّراسة، و يصفون لي مشاعرهم حول مرحلة كاملة من الحياة قد أشرفت على نهايتها و هي التعلّم الأكاديمي بالنسبة لهم. كعادتي مع كلّ ما يعترضني في يومي من مواقف، و محادثات، و لقاءات، فإنّي لم أقف على ما كان بيننا، و سبحت في فضاءات أخرى من التفكير و التفكّر و بعض التذكّر لما فات. و قد لازمني هذا الموضوع لأيّام لما كان له -و مازال- من أثر في شخصيّتي.جعلت أنظر في لحظات الفراق و الوداع، على مختلف هيئاتها، إن كان الفراق لشخص قريب أو مكان، أو كيان مؤسّسي أو غيره ..
تذكّرت طبعا بعضًا من تلك المواقف، و كان من ما تذّكرته حديثًا مع أحد الأصدقاء جرى بيننا آخر أيّام الدراسة الثانويّة. صارحتُ ذلك الصّديق حينها بأنّي أكره لحظات الوداع، و أنّي كلما اقتربت أيّام أيّ شيء ألفته و أحببته إلى الإنتهاء، ضاق بي صدري و وددت لو أني مددت في عُمرها، ثم أجد أن لا حيلة لي على ذلك فأزداد ضيقا و تبرّما. أنا أعلم ما يكون بعد ذلك الأمر، من هجر و و نسيان، و لكنّ ذلك لا يكون إلاّ مع ثلّة قليلة من النّاس، فيكون الإفتراق حينها نعمة لا نقمة. إنما الحسرة على الطيّبين، على الأوفياء و على من ملؤا شغاف القلب، من لا تُغيّرهم الأزمان، و لا تؤثر في ملامح صدقهم عوامل البُعد الجغرافية. الشّيء الوحيد الجميل في الفراق هو تبصرتك بصدق الصّادقين فيزيدهم عندك حظوة، و بزيف غيرهم، هو فقط من يُعلّمك من تتخذ خليلا و من تهجر، و أنّ أُويقات اللّهو الحالية لا تُنبؤ عن طباع المرء و لا تُمحّص لك خصال الجديرين بالصُّحبة و الرِّفقة، و من يُتكؤُ عليهم عند البأساء و الضرّاء.
و من العجيب أيضا ما تشهده من نفسك، من تذكّر بعض التفاصيل الجزئيّة و البسيطة جدّا في يومِ ما، في مكانٍ ما، و تجد أنّك يتعسّر عليك تذكُر محطّات مهمة في حياتك أو أسماء بعض من عرفتهم أو حتى بعض ما درسته سابقا. إنما ذلك لأنّ الذكريات وقودها الأثر، فما أسعد قلبك و أبهج مُهجتك فإنّ بريقه الوهّاج في صدرك لا تقوى عليه ظلمة الأيّام الرّتيبة. فجلسة عند الغروب مع صديقك على متراميات أمواج البحر، أو زهرة قطفتموها سويّة بين أحضان الطبيعة، أو ليلة قضيتموها في سهر طلبًا لعلمٍ أو إنجازًا لمشروعِ تطوّعي، تظل راسخة في فؤادك و تُذكي مشاعر المودّة و حفظ العِشرة لمن شاطرته تلك اللّحظات.. إنّ اللحظات يا أُخيّ تُقاس بالصدق، و بالطيبة، و لربّ بعيد عن العين لا تراه و هو قريب من القلب، تستعذب رفقته حينا من الزّمن ما لا تتحمّله مع قريب المكان، بعيد عن الفؤاد. من الأشياء التي تكوّن شخصية الإنسان هي المشاعر و العواطف، و التي بدورها تتغذّى على الذكريات، و ذكرياتي أنا تكوّنها شخصيّات خاصّة جدّا، لها مكانة غالية عندي. لذلك أسعى دائما في إنتقاء المحيطين بي بدقّة ، و أصطفيهم على بصيرة و بدراية، فإنّ منزلتهم عندي تفوق كونها مجرّد معرفة أو علاقة عابرة.
تذهب الأيّام التي أحببناها و أسعدتنا بذكراها و تأفل كأفول الشمس عند أفق المغيب، و تتهاوى في وادي النّسيان السّحيق كثير من ملامحها كما تتهاوى أوراق الخريف على الأرض. و مع كلّ ما نودّعه و نتركه خلفنا و نمضي في الحياة، تكسو القلب ندوبٌ على هيئاته، و تُحيط به ثقوب تتكّون على مر السنوات، تُغرق القلب رُويدًا رويدا في بحر الذكريات حتى تُصبح دفينا فيه، لا حول له و لاقوّة. و لكنّ شمس المغيب تشعّ بنورها فجرًا، و أشجار الخريف التي تساقطت أوراقها، تُزهر ربيعًا، و كذلك أيّامنا، فلسوف تَخْلُفُ أزماننا أزمانًا نذكرها كما ذكرنا سالفاتها.