تشرين الثاني 1975

نصب جدي السلم على فرع متين عالٍ من فروع شجرة الزيتون الكبيرة في بستاننا في "الزاروب "

بدأ يصعد ، وصل الى الدرجة العشرين، سمى الله ،ردد أذكارا، تعوذ من نوائب الزمن ،وبدأ بقطاف حبات الزيتون.

تحت الشجرة كان أبي وأخي أحمد يلتقطان ما تناثر من يد جدي من حبات الزيتون،

وكنت أنا ألتقط ما يتناثر من فمه من كلمات حكيمة علمته إياها تجارب عمره الطويل ،أو من قصص حياته الحافلة.

قال جدي : زرع أبي أشجار هذا البستان منذ سبعين عاما ،عندما رجع من استنبول بعد انتهاء الحرب

- أي حرب ياجدي ؟

لم يجب جدي ! يبدو أنه لا يعرف ولم يكن أبوه نفسه يعرف من كان يقاتل من ، ولماذا !

صعد جدي درجة أخرى ، أصبح مشرفاً على الأفق وراء بساتين الزيتون الممتدة

-ماذا ترى ياجدي ؟

-غيوم سوداء قادمة من الشمال ، من ناحية الجبل!

تعوذ جدي مرة أخرى من غدر الزمن ونوائبه.

- ماذا تعني يا جدي بنوائب الزمن ؟

نهرني أبي : لا تسأل كثيرا ، سوف تكبر وتعرف !

تسليت بجمع عيدان الزيتون، وأشعلت نارا ، البرد قارس ، عيدان الزيتون تشتعل بسرعة وتنشر الدفء ، لماذا لا نستدفئ بها بدل المازوت ؟ لا يحب أبي أن يجيب عن الأسئلة السخيفة ، أجبت نفسي : سأكبر وأعرف!

دوى صوت قوي، ارتعدت منه ، لم أسأل ، رأيت رجلا طويلا مخيفا بشاربين ثخينين قبيحين ، يحمل بندقية ووراءه كلب يلهث ، وجه البندقية نحو سرب طيور ، وقع طير قريبا منا ، كان ينزف ، ويتقافز من الألم ، وثب الكلب واختطفه وسلمه لصاحبه . فرت بقية الطيور بعيدا عن عين الصياد وعين بندقيته،

ارتفع لهيب النار التي أوقدتها ، تصاعد دخان كثيف .

آب 2011

أبي وأخي أحمد وابنه زاهر في الزاروب يسقون أشجار الزيتون ، رفع أبي بصره نحو فرع عالٍ متين من شجرة الزيتون الكبيرة ، أطال النظر ، ترحم على والده وجده ، لا أدري إن كان يتذكر الماضي أم يتكهن للمستقبل ، كانت نظراته تعبر عن كلام طويل . دوى صوت قوي ، ارتعدنا ، دارت أعيننا من الخوف ، تبعه أصوات مدوية من ناحية الجبل ، ودخان غطى الأفق فوق بساتين الزيتون الممتدة ، اختبأنا لوهلة ، نظرت ، لم يكن هناك صياد و كلب وطيور !.

أيلول2011

حزم أبي حقائبه ، نظر في صورة جدي المعلقة على الجدار ، السيارة تنتظر أمام الباب ، خرج أبي متردداً ،شارداً ،في عينيه دموع ، اتجهت السيارة نحو الشرق بعيدا عن جهة البساتين ، سأل أبي من سيسقي أشجار الزيتون ؟ رد أخي أحمد بعصبية: ليس هذا وقت التفكير بأشجار الزيتون، الأجدى أن تسأل من سيسقينا نحن !

شباط 2016

وصلتني رسالة واتس من زاهر في استانبول:

روعتني نشرة الأخبار : ليس في البلد مازوت ! الناس يقطعون أشجار الزيتون ليستدفئوا !!بساتين الزيتون الممتدة أصبحت سهولاً جرداء !

وعد زاهر في رسالته أنه عندما تنتهي الحرب سيعود ليزرع في "الزاروب "أشجار زيتون كما زرعها جدّ جده من قبل .