بسم الله الرحمن الرحيم


اظن أنَّ السنواتِ العجافِ السابقةِ قد أكدت على أهمية المستويات الثلاث التالية، كحقول في غاية الأهمية لتشخيصِ ، و علاجِ الأمراضِ العربيةِ الخطيرة :

المستوى الأول هو : المستوى العربي الداخلي ، بكافة محاوره السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ...

المستوى الثاني هو : المستوى الاقليمي و الدولي .

أما المستوى الثالث – و هو ليس الأخير قطعا – فهو المستوى العقليِّ و الفكري و الثقافي ...

و قد تعمدتُ وضعَ المستوى العقلي الفكري الثقافي ، في آخر النقاط ؛ لأن هذا المستوى يكاد يكون هو المستوى شبه الوحيد الذي يتم التركيز عليه ، من قبل الجهاتِ الفكريةِ  على مختلفِ مشاربِها و توجهاتِها ، و من قبلِ المهتمينَ بالشأن العام ، سواء كانوا سياسيين أو غيرهم ، و أخيراً ، يتم التعاطي مع هذا المستوى بكثافة - خاصة في السنوات الأخيرة - من قبل الحكومات العربية ؛ فالمؤتمرات تُعقـَـد على مستوى الدول ،  و تـُـؤَسَّـس المراكز البحثية ، و تـُـدار ندواتٍ لها أول و ليس لها آخر، على شاشاتِ الفضائيات ، و كل ذلك يـُموَّل من قبلِ الأنظمةِ العربية  ، الاسلامية و العلمانية على حد سواء  .

لهذا أصبحتُ – رغم اهتمامي الكبير بالجوانب الفكرية للأزمات العربية – أنظر بعينِ الريبةِ الى هذا الاهتمام ، و أنا أقولُ مقدماً : أن هذا المستوى من مستويات البحث و التحليل – و بالتالي العلاج – مهمٌ ، و مهمٌ جدا ، و لكنه ليس الوحيد . كما أن الاهتمام به وحده – تقريبا- اهتمام مشبوه – برأيي -  و ذلك للآتي :

أن هذا الاهتمام المفرط ،  يصرف النظر عن مخططات ، و مطامع ، و سياساتِ الدولِ الاقليميةِ و العالمية ، تجاه عالمنا العربي ، و هي مخططاتٌ و مطامعٌ و سياساتٌ جائرةٌ و خطيرة ،  و قد ساهمت ، و لا تزالُ تساهم ، بشكلٍ كبيرٍ في تشويه البنية السياسية ، و الاجتماعية ، و الاقتصادية ، لأنظمتـنا ، و جعلـتـها تصب في مصلحتها ، و تدور في فلكها ، بما يخالفُ مصالحنا ، و يهدد أمننا و سلامَنا القوميِّ و الاجتماعي .

كما ان تسليط الاضواء الساطعة على المستوى  الفكري ... ، تعمينا عن رؤيةِ عورات بنانا الاجتماعية ، و تشوهات أنظمتِـنا السياسيةِ و الاقتصادية . و تعمينا – بالتالي – عن رؤية جرائمها السياسية و الاقتصادية ...

أضف الى ما تقدم أن الأنظمةَ الاقليميةَ و الغربية – و السـبـق للغربية – رعت منذ عقود ، القوى المتطرفة ؛ فتاريخ العلاقات بين الغرب و هذه القوى تاريخ أصبحت حلقاته و مفاصله الرئيسية مكشوفة ؛ فمثلا : منذ الاحتلال  البريطاني للهند ، و تطبيقاً لسياسةِ فرق تسد المشهورة – و المتكررة – عملت بريطانيا على اثارة النعرات الطائفية ، و كانت النتيجة صراعاتٍ لمصلحةِ الاستعمار ، و قد تجسد هذا الدعم على شكل كيان سياسي انفصل عن الهند هو دولة باكستان ، التي عملت هي و الغرب ، و معهم المملكة العربية السعودية ، على تجنيدِ ، و تأييدِ ، و دعمِ التطرف في افغانستان و غيرها ، لمصلحة الغرب و أذنابه . و بذلك صُرِفَـتْ طاقات الأمة ، و أُسِـيـلَت دماءُ شبابِها ، على مذبحِ المصالح الغربية .

كما أن أكثرَ الانظمةِ ولاءً للغرب في عالمنا العربيِ المنكوب ، دعمت الحركات الاسلامية المتطرفة ، و هيئت لها الظروف لتصبح سداً في وجه المد الوطني القومي . حدث هذا في الاردن ، و حدث في مصر الساداتيه ... 

لهذا – و غيره – يكتسب التركيز على مستوى الانظمة العربية بكافة مجالاتها السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ، و التركيز على مستوى الانظمة الاقليمية و العالمية بمختلف خلفياتها و توجهاتها ، يكتسب ذلك أهمية فائقة جدا . فما ولادةُ هذه الجماعةِ أو تلك ، أو نشر هذهِ الفكرةِ و غيرها ، الا نتاج ظروفٍ موضوعية محلية – بما تشمله هذه الظروف من خصائص اجتماعية و غيرها - و ظروف اقليمية و دولية ، و يغذي ، طبعا ، هذه الجماعات ، و هذه الافكار ، تراثٌ ضخم لم يُنْخَل بعد جيداً ...

اذن ، ما نحن فيه أسبابه ، و بالتالي سُبُلُ علاجِه ، متنوعةٌ و معقدة ، تنوعَ  المؤثراتِ في حياة العرب ، و تعقدها .

و حتى لا نضل و نتمزق أكثر ، علينا – كعرب – التركيز على النقاط الآتية  :

  • ان مصالحنا كعرب واحدة ؛ فالاستقرارُ على المستوى القطريِّ الضيِّـق – في السعودية و اليمن و لبنان مثلا - لا يمكن أن يتحقـق الا بالاستقرار في سوريا و العراق ، و طبعاً في فلسطين ،.لذلك يسعى الاستعمار – و تساعده الكثير من الانظمة العربية و الاقليمية للآسف – الى تمزيق اللحمة الوطنية ، و طبعا الى منع قيام أي شكل مهم من أشكال التعاون القومي .
  • ان مطالبَ الجماهيرِ العربية ، مطالبٌ مطبوعةٌ بشكل أساسي ، بطابع حياتيٍّ انساني عام ؛ فقد صرخ الناسُ مطالبينَ بالكرامةِ و الخبزِ و العدالة ، لم يتظاهروا مطالبينَ بدولةٍ علمانية أو اسلامية ، و لم يتظاهروا تأييداً لهذا الحزبِ أو ذاك ؛ أو نشراً لهذه الفكرةِ أو تلك ... لذلك علينا – حتى لا نتوه أو نتمزق – أن نجعل مطالبَ الناسِ دليلنا ؛ فما يضرُّ الناسَ يضرُّ الاوطان ، و ما ينفعها ينفعُ الاوطان ؛ اذن علينا أن نتساءل عن معنى المطالبة بالعدالةِ و الكرامةِ و الخبز ؟ ما هي الترجمة الأمينة لهذه المطالب ؟ حتى نرفعها و نناضل من أجلها ، و بالتالي حتى نكسبَ تأييدَ الناسِ ، و نقوم بتغييرٍ يُمَثـِّـل الناس ،  و بالتالي يوفر الاستقرارَ و الوحدة ؟ ان معنى هذه المطالب – برأيي - هو : قيامُ أنظمةٍ سياسيةٍ ،اجتماعيةٍ ،اقتصاديةٍ  ، تضمن العدلَ و الكرامةَ لكل الناس ، أنظمةٌ يتم من خلالها توزيعٌ عادلٌ للثروة على الناس ، و تمثيلٌ سياسي عادلٌ لكل الناس ، انظمة تقضي على التفاوتِ الاقتصادي و الاجتماعي الهائل بين الناس ... لقد آن الأوان لكي تصاغ المطالبُ الحزبيةِ في ضوءِ هذه المطالب ، بدلاً من الجدالِ العقيمِ حولَ مواضيع فكرية نظرية بحتة  .
  • اذا استطعنا أن ننجزَ هذه الترجمة لمطالبِ الناس ، و ضمنا احداثَ تغييراتٍ على كل المستوياتِ لضمانِ تحقيقها ، اذا استطعنا ذلك ، فإننا نكون قد أسَّـسنا تأسيساً مؤسساتياً ، للدولة العربية الحديثة ، تأسيسا مجسداً للهوية الوطنية العربية القومية الجامعة .
  •  ان هذه الهويةِ الوطنيةِ و القومية – التي لا شك انها مؤسَّـسةٌ على لغةٍ، وتاريخٍ ، و ثقافةٍ مشتركة أصلا -  لن تـتجسدَ اذا ، في عـقـدٍ و نظامٍ اجتماعيٍ سياسيٍ عادل ، الا من خلالِ الاخذِ بعينِ الاعتبارِ المطالب الجماهيرية ،  و الا بضمانِ مشاركةِ هذه الجماهير بالعملِ المثمرِ البناءِ في صياغةِ هذا العقد، و تأسيسِ هذا النظام ، و الا اذا اخذنا بعينِ الاعتبارِ المصالحِ العربيةِ القومية ، التي لا شك أنها مناقضةٌ لمصالحِ الغرب .
  • اذا دمجنا هذه النقطة بالنقاطِ السابقة ، استطعنا أن نقول : ان الوطنَ هو الناس ، و الناس هم الوطن ، و لا يمكن أن نتصورَ قيامَ دولةٍ وطنيةٍ لا تعكس همومَ الناسِ و لا تلبي طموحاتهم ، و بما ان الوطنَ القطريِّ في عالمِنا العربي لا يمكن ان يستقرَ الا باستقرارِ بقيةِ الاوطان ، فان مطامح الناسِ الوطنيةِ ، هي المطامحُ القومية العربية بالضرورة ، و المطامحُ القومية العربية ، هي أيضا مطامحٌ وطنية .  
  • بناء عليه يجب وأد كل فكرة ، و ايقاف أية ممارسة ، و مقاطعة أية جماعة ، تتعارض مع المصلحةِ الوطنية  ، و المصلحة القومية .
  • ان النضالَ الذي يأخذ في اعتبارِه ما تقدم سيصوغ – مهتدينَ بفرانز فانون – الافكارَ و الثقافةَ الملائمة لهذه الامة العربية ، في هذه اللحظة التاريخية ، و سنتـوقـف عندها عن الجدلِ العقيمِ حولَ الثنائيات المشهورة ، مثل : الحداثة و التخلف ، الأصالة و المعاصرة ... و سيصبح كلُ ما هو متوافق مع مصالح الناس حداثة ، و لو كان قديما ، و كل ما يتعارض مع مصالحِهِم تخلفاً ، و لو كان حديثاً .

و اذا رمنا التلخيص أكثر قلنا : ان علينا النضال – اسلاميين و علمانيين – في سبيل اقامةِ دولٍ عربيةٍ وطنيةٍ ؛ دول تعكس مصالحَ كل الفئات على المستوى الوطني القطري ، و تناضل مع شقيقاتها من الدول العربية لحماية المصالحِ العربيةِ القومية . تمهيدا لوحدة عربية طال انتظارها .

و اللهُ أعلم .