حاول الإنسان منذ بداياته على هذا الكوكب أن يعرف نفسه، ويعرف العالم حوله. ولم تكن لديه أداة فعالة يستعملها في محاولات كشفه، فصاغ العالم على هواه ،وشكّله كما يحب ،وألبسه مخاوفه وآماله. وهكذا كانت صورة العالم عند الإنسان الأول مزيجاً من أساطير ،تفسر ظواهر الكون باعتماد الخيال الواسع الجامح، الذي لا يوقفه شيء ،حتى استولت الأساطير على كل شيء وبقي الإنسان ملك خياله ما شاء الله له أن يبقى .

ثم أخذ العقل يتبوء مكانه قليلا قليلاً ،منذ إقليدس وهيراقليطس وبقية الفلاسفة من قبل سقراط ،حتى ذاعت أسئلة العقل، وغزت حدود الأساطير ،وانتزعت منها مساحات واسعة ،وقوضت سلطان الخيال الجامح، وأصبح العقل مفتاح باب المعرفة، وساد على حقول واسعة ،وأقام دولة الفلسفة، التي راحت تناوئ بقايا الأساطير و تحل مكانها .

ثم بزغت شمس العلم، كأداة جديدة للمعرفة من أحضان الفلسفة، وأخذ العلم على عاتقه الإجابة على أسئلة الفلسفة ،وكان كلما أجاب على سؤال ضمه إليه، وأصبح تحت سلطانه ،وأصبحت المعادلة واضحة :كل سؤال ليس له جواب شبه نهائي ،وشبه يقيني، ولا يوجد طريقة منهجية في الإجابة عليه، فهو يتبع الفلسفة .وكل سؤال نجح العلم بالوصول إلى إجابة دقيقة عليه ،تؤيدها التجربة ،وتتصف بالموضوعية ،والدقة ،والاتساق ،وقابليتها للاختبار، فذلك يخرج من سلطان الفلسفة إلى رحاب العلم .

يضرب "جون سيرل" فيلسوف العقل المعروف، مثلا على نقطة تحول قضية فلسفية إلى علمية في ختام كتابه ( العقل واللغة والمجتمع ) بقوله :إنه عندما فكك عملية "التكلم " إلى مراحل محاولا فهم الطريقة التي يعمل بها العقل في القصد إلى إيصال فكرة إلى الآخر ، وكيف تنتقل الفكرة من رأس إلى آخر عبر عملية "التكلم "- يقول إن زملاء له علقوا على بحثه بقولهم : إنه نقل الفكرة من حيز الفلسفة إلى نطاق "علم اللسانيات "بعمله التفكيكي ووضعه منهجا مقبولا لدراسة "فعل الكلام ".

لم يستطع العلم رغم انتصاراته الهائلة أن يحد الفلسفة ،فكان كلما انتزع منها حقلاً رجعت إلى ذلك الحقل من جهة أخرى، وقد ذكر أن اينشتاين بعد أن ابتدع "نظرية السببية "وفسر بها كمّا هائلاً من ظواهر الطبيعة، وسد أبوابا كثيرة للفلسفة، كانت تدلي بدلائها فيها، بعد ذلك الفتح الهائل للعلم ،وقف اينشتاين يتساءل بسؤال فلسفي عميق : لماذا يكون الكون مفهوماً أصلا ؟ لماذا لم يكن لغزا يستعصي على فهم الإنسان ؟ أو لماذا لم يكن واضحاً لدرجة أنه لا يتطلب أبحاثاً ودراسات وآلاف السنين من جهد الإنسان ؟

وحين ظهرت نظرية الكم في الفيزياء ولم يتقبلها اينشتاين بداية، لأنها تجعل قوانين الفيزياء تتبع الاحتمال وليست كما فهمت لقرون من قبل ،فقال اينشتاين قولته الفلسفية الشهيرة (إن الله لا يلعب بالنرد) يقصد بذلك أن الكون يستحيل أن يبنى بطريقة احتمالية ، فرد عليه نيلز بور : ليس عليك أن تفترض مسبقا طريقة الله في بناء كونه .وهذا كما هو واضح نقاش فلسفي يدور في وسط ساحة العلم .

كما أن الفلسفة بقيت تهيمن على أسئلة العلم الكبرى كمفهوم السببية ،وإطاراته الخارجية ،و تحدد له درجة اليقين في نتائجه، والمدى الذي يمكن أن تمتد إليه تعميماته، ثم تتدخل بقوة في تأويل ما يصل إليه من نظريات ،وتحاول أن تدفعه إلى جهة ما أو ترده عن جهة أخرى، كدور فلسفة الأخلاق مثلاً في حقل استنساخ البشر ، و تطبيقات نتائج العلم عموماً .

تراكم العلم تدريجيا وبنى كلٌّ على ما وصل إليه سابقوه ،وكانت له قفزات لم تبن على شيء سابق ، ولا يزال يتقدم ويغزو حقولاً جديدة، ويوسع حدوده ،وبغيته أن يفسر الظواهر، ويتنبأ ،ويتحكم، ولكن إلى أي مدى ستبلغ درجة تحكمه في الكون ؟ وهل سيحقق ادعاءات بعض أهله بأنه سيصبح قوة طاغية تقوض سلطة الألوهية ؟

وقد أطلق بعضهم شعارات وعناوين كتب متبجحة جداً مثل إعلان موت الإله !!وهل دفن العلم الإله ؟ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا !! ولكن على العلم أن يهزم الفلسفة ويغلبها على كل مالها بإيجاده تفسيرا تجريبيا منهجيا لكل موضوع اختص بمعالجته العقل حتى الآن ، قبل أن يطمح إلى مناكفة الدين، الذي يختص دون غيره من فلسفة، وعلم، بالإجابة على أسئلة لا يستطيع العقل نفسه أن يجيب عليها فضلا عن العلم وهي مع ذلك أسئلة لا تزال تلح على عقول البشر منذ أن وجدوا .