زهرةُ الحياة الدنيا
باسم الله والصلاة على رسول الله ﷺ.
كيف نرى الدنيا؟ وماهي هي حقيقتها؟
ذُكرت الدنيا في القرآن الكريم 115 مرة ولم تُمدح أو رُغّب بها
بجميع الآي، وهذا يقودنا لـ هل نحن فهمنا حقيقة الدنيا؟
بعد إطلاعك على قادم السطور -ان شاء الله- أعد طرح
هذا السؤال على عقلك واحذر طرحه على نفسك..
بداية قال الله تعالى:
{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ • لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ}. [سورة الأنبياء/٢-٣].
وقال سبحانه:
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ}. [سورة الأنفال/٢٣]. ختام البداية.
الدنيا سُمّيت بهكذا اسم لهذه الأسباب على الأرجح:
- لِما يكون فيها من دُنُو (قُرْب) من الآجال،
ودُنوّ من الآخرة وهكذا.
- أو من دَنُؤْ و دناءة أي حقير قريب من اللُؤم،
ودُنُوّ ، دانٍ، دَنِيٌّ - غير مهموز -.
- وسُميت الدنيا؛ لأنها دَنَت (تأخرت) عن الآخرة
والله أعلم ..
جدّك الرابع كيف هو؟ هل رأيته وهل سألت وعرفت عنه ما يكفي؟
ستُنسى كما نَسيت رابع أجدادك، أوقف حركة الحياة وتفكّر
فيما حولك، مِن الأموات الذين كانوا أحياء يُكلموك ويبتسمون
ويُوَجّهوك ويملكون عاطفة وإحساس، فأين همُ الآن؟
ومن الدول والحكومات التي لم تبقى رغم قوّتها،
وعدّتها، ورجالاتها، واتّساعها، كانوا يحكمون الأرض
وحُكمهم يسري على الكبير والصغير، فأين همُ الآن؟
ومن الأقوام والملأ الذين رفضوا دعوة الرُسُل،
إذ كانوا يستكبرون عن اتّباعهم لدين رسول
الله، {فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ؟ ]سورة الحاقة/8].
تأكّد أن الحديث عن الدنيا لا يتعدّى
الزهد بها والتقليل بمَتاعها.
قال الله جلّ جلاله:
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة الأنعام/32]. أفلا نعقل؟
وقال تعالى:
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [سورة آل عمران/185].
فهُنا شبّه الله -سبحانه- الدنيا بالمتاع الذي يُدلَّس به على المُستام،
ويُغَرُّ عليه حتى يشتريه، ثمّ يظهر له فساده ورداءته، والغرور كمن
يقول: غَرَرْت فلاناً غرورا، والشيطان هو المُدلّس الغَرور، وطاعته
لا تكون إلا لضعف النفس وطاعة باعِث الهوى، وهذا الباعث
لا يأتي من العدم، فإمّا من نظرة، او صوت، أو ملامسة، أو خيال،
ولن يُطاع هذا الباعث إلا إذا تهيّأت الأسباب لفعل ما يأْمر..
لم يوصف المؤمنون بالقرآن أنهم مُحبون للحياة الدنيا،
بل على العكس فالكفار هم من وُصفوا بإلتفاتهم لها،
كما قال الله تعالى:
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل/107].
وجاء اللّفظ القرآني {اسْتَحَبُّوا} وليس أحبو
ومن المعروف أن صيغة استفعل اشد من أفعل.
ولابن الجوزي -رحمه الله- كلام مُوجِز ومُوجَز يقول فيه:
"الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأمَّا العاقل المتَّقي فهو يُصابر المجاعةَ، ويدور حول الحبِّ، والسلامةُ بعيدةٌ، فكم من صابرٍ اجتهد سِنين، ثم في آخر الأمر وقع، فالحذرَ الحذر، فقد رأينا من كان على سَنَنِ الصواب، ثم زلَّ على شفير القبر".
وتحدث رسول الهدى محمد ﷺ عن الدنيا في عدة مواضع منها:
- عن الضّحاك بن سفيان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا ضحاك ما طعامك؟ ) قال: يا رسول الله، اللحم واللبن. قال: ( ثم يصير إلى ماذا ؟). قال: إلى ما قد علمت. قال: ( فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا). رواه أحمد وصححه الألباني.
- وعن مسهر بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
فلو كانت الدنيا ذات قيمة عند الله لوهبها لعباده الصالحين
ولكن ادّخر الله سبحانه لهم كرامته، كما في حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أحب الله عز وجل عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ).* رواه الترمذي وصححه الألباني.
* سقيمه: أي مريضه، إن كان شرب الماء يزيد علّته.
فالموفّق من عَلِم أن عباد الله الصالحين قد أكرمهم الله
بحجبهم عن الدنيا، وادّخر لهم كرامته يوم يلقونه،
والشقي من باع الخلود مقابل ناقص محدود..
ومعلوم أن الدنيا دار اختبار ومرور لا قرار، وأنها زائلة
مهما كانت ثابتة والعبرة بالآخرة، فالعمل للدنيا
والآخرة يكون على قدر البقاء فيهما.
والعبادة هي الأساس، فلا تشغلك صروف الحياة
عنها، فكلّما لهَوْت عن ذكر ربك زادت قسوة قلبك،
فيزيد ولَع الدنيا بك، فتضلّ بذلك دربك.
وكلما استصغرت دُنياك، قلّت مشكلاتك، وصفا بالُك، وزاد ابتهاجك.
قال الله تعالى:
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ } [سورة الأنعام/70].
وقال سبحانه:
{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [سورة طه/131].
ومن المعلوم أن كُثْر النَظَر يُورِث الطَمَع،
فإن طَمِعْتَ تعبتَ وشقيتْ، وإن قَنِعت ارتحتَ ورضيتْ.
ويقول الشافعي - رحمه الله -:
إذا ما كُنتَ ذا قلبٍ قنوعٍ
فأنتَ ومالكُ الدنيا سواءُ
ومن المعلوم أن يعفّ الإنسان نفسه عن المسألة،
فإن فيها ذلّة ومهانة، وهذا يقود النفس لما لا
تُحمد عُقباه والعياذ بالله.
ويجب على الإنسان أن يعمر الأرض، فهذا ثاني أسباب
خلق الله للبشر، فقد قال الله تعالى:
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة/30].
وقد قال الرسول ﷺ
(إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل).
وهذا يدل على أن المسلم يستمر على فعل الخير، ولو كان
قبل القيامة بثوانٍ، فهو مأجور على ذلك.
فليعلم الإنسان أن الزهد بالدنيا لا يكون بكل ما فيها،
فلا يمكن للإنسان أن يزهد بعبادته، وأخلاقه، وما إلى ذلك.
إذا نعرف أن الإنسان عليه أن لا يتزود من الدنيا للدنيا
كتزوّده للآخرة، فهذا يدلّ على نقص في العقل، وإلا جهلا،
فإن كنت مغادرا مكانا لا محالة، لا يُعقل أن تضع فيه كل
ما تملك من مال، وعلى هذا قِس.
قال الله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.
[سورة القصص/77]
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} :
مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزورك عليك حقا* ، فآت كل ذي حق حقه.*زورك: أي زائرك.
روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: (استحيوا من الله حق الحياء). قالوا: إنا نستحيي يا نبي الله والحمدلله، قال: (ليس كذلك ، ولكن من استحيا من الله حق الحياء ، فليحفظ الرأس وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) رواه الترمذي
وثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال:
(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ).
فلا تغرّنك زهرة الحياة الدنيا، فسببها {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.
والله أعلم ..