إياكم والجَوَادّ (1)..

إياكم والسبل..

إياكم وبُنيات الطريق..

الله تعالى يوصيكم فيقول:

(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)

 إنه يدعوكم إلى صراطه الموصل إليه، وإلى دار كرامته.

 إلى الصراط المعتدلِ السهلِ المختصرِ، المستقيمِ الذي لا اعوجاج فيه.

{فَاتَّبِعُوهُ} لتنالوا الفوزَ والفلاح، وتدركوا الآمالَ والأفراح.

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: خطّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا بيده، ثم قال: "هذا سبيلُ الله مستقيمًا"، وخطّ عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السُّبُل، ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه"، ثم قرأ الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

هذه الوصية التي خلّد الله أمرها في كتابه، ثم رُسمت خطوطها بيدِ النبوة على أحسنِ طرازٍ في البيان والتعليم، فلم يبق إلا أن يأتي من يُحبِّرها ويُلونها بشرحه وبيانه...

فكان ذلك هو ابنُ مسعود رضي الله عنه حين سأله رجل : ما الصراط المستقيم؟ فقال:

تركنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جَوَادّ، وعن يساره جَوَادّ، وثَمَّ رجال يدعون من مَرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ، انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

لقد حُق لهذا الرجل الذي يسأل الله في صلاته أكثر من سبعَ عشرةَ مرةً في اليوم (اهدنا الصراط المستقيم) أن يستفهم عنه، ويطلب الإرشاد في توضيحه له، ودلالته عليه.

يريد السائل - ونحن من ورائه - أن يعرف علاماتِه وحدودَه، ويعرفَ الفصلَ بينه وبين أضدادِه؛  فإنّ كمالَ الفهمِ للأشياء يكون بتمييزها عن أغيارها.

وعلى الخبير وقع..

وهل العلم إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم؟

فرَدَّهُ ابن مسعود إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم للآية ... وزاد ذلك شرحا وبيانا:

فالخط المستقيم يُضرب مثلا للزوم الصواب في الرأي والعمل، وبهما يصل المرء إلى ما يرجوه من الخير والنفع.

ولكن أين مبدؤه؟ ونقطة الانطلاق عليه؟

يقول ابن مسعود: (تركنا محمد ٌ صلى الله عليه وسلم في أدناه)

أي: لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى أبان لنا تلك النقطة وسلك بنا أول الطريق، ووصفه لنا من أوله إلى منتهاه، وحذرنا من العوائق والحواجز والعقبات التي ستمر بنا أثناء طروقه، وبشرنا بثمن الصبر على السير فيه، وبالعاقبة الحسنة لسالكيه.

وإن سألت عن زادِ المسير في هذا الطريق: فإنما هو لزوم سنته صلى الله عليه وسلم والعملُ بها ظاهرا وباطنا.

وإن في لزومها تمامَ السلامة وجِماعَ الكرامة.

فلا تُطفأ سرجُها ولا تدحضُ حججُها.

من لزمها عُصِم،  ومن خالفها نَدِم.

إذ هي الحصن الحصين والركن الركين؛ الذي بان فضلُه، ومَتُنَ حبلُه.

 من تمسك به ساد، ومن رام خلافه باد.

 فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل.

وفي  مسند الإمام أحمد ط الرسالة (28/ 367) وغيره:

عن العِرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة، وإن (1) عبدا حبشيا ؛ عضوا عليها بالنواجذ، ....الحديث ".

ولا بد للسائر في هذا الطريق من ناصر معين، وصديق أمين، يشد الأزر، ويشترك في الأمر .

ولا أفضلَ ممن عقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة.

تَعَلُّمُ السننِ سرورُهم، ومجالسُ العلم حبورُهم، وأهل السنة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم.

وهاهي الجواد والسبل وبنيات الطريق ..... تطل برأسها وتلوح في الأفق وتلتهم ضعاف الإيمان، وتبتلع ضعيفي الهمة والعزم.

فالجوادُّ التي عن يمين الصراط وشماله: إشارة إلى طرف الإفراط والتعمق في الدين، والتشدد والتنطع في الأخذ به، والاستسلام لدعاة الشبهات.

وإشارة إلى طرف التفريط والتقصير في التمسك به، والانغماس في الذنوب، والاستجابة لدعاة الشهوات.

يقول ابن مسعود: (وثَمَّ - أي: هناك -رجال يدعون من مَرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ، انتهت به إلى النار)

إنهم دعاةُ أبوابِ جهنمَ يقولون لكل سائرٍ (( إلى الهدى ائتنا )).

 ولا يزالون يوحون إليه زخرف القول غرورا، حتى يعْدِلوا به عن طريق الاستقامة، أو يردوه عن دينه ان استطاعوا.

من عَلِقت مخالبُ شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق، ففسادهم في الأرض كثير، وأكثر الناس عنه غافلون {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون - ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}

ومن أجاب دعوتهم ... ولجّ منغمسا في تلك الجوادّ؛ انتهت به إلى النار والعياذ بالله.

فيا عباد الله:

احذروا تلك الجواد والسبل، وتفطنوا لدعاتها...

وكونوا على إيمانكم وصلاحكم، وأعراضكم، أشد ضنا وبخلاً من ضن البخيل بماله..

والصبر الصبر... حتى تسمعوا بإذن الكريم الغفار ... نداءَ الملائكة الكرام ((سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)) .

اللهم ارزقنا اتباع السنة والثبات على الملة .وهب لنا أعوان خير وصلاح، وأولاد بر وفلاح، إنك سميع الدعاء

9/2/1439 هـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجوادّ: جمع جادة، وهي عرض الطريق ووسطه، أو الطريق العظيمة.