"لا والله لا نخون ولا نذل ، فما قمنا من أجل أن نملأ بطوننا كما يعدوننا، فلم نعاني شيئاً بعد بالنسبة لما عاناه محمد صلى الله عليه وسلم". قالها فتحي الشقاقي منذ ثمانية عشر عاماً وما زالت حروفها تعيش بيننا صبراً وثباتاً على المبدأ.
إنه هو فتحي الشقاقي، الذي تنقل الرواية الشفوية لسكان مخيم اليرموك وصفهم له بالقول: " طبيبٌ فلسطيني متدين، أُبعِد قسراً إلى لبنان، ومنه انتقل إلى سوريا، حيث سكن مع عائلته في ملحق بنايةٍ على السطح في مخيم اليرموك، كان يفتح بيته ومكتبه المتواضع على مدار الساعة لكل الناس، وكان أكله المفضل في مكتبه " اللبنة والزيت والزعتر". يمتلك ابتسامةً عريضة، يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم وينصت لمشاكلهم، وكثيراً ما كانوا يشاهدونه يسير في شوارع المخيم لكي يشتري الخبز والخضروات والدواء ". تلك هي الرواية من اليرموك -الذي يحمل على صدره مقبرتين للشهداء الأبرار- عن الشهيد الثائر فتحي الشقاقي.
يتعثر قلمي في الكتابة عن شخص الدكتور الشهيد والمفكر العظيم فتحي الشقاقي –رحمه الله وأعلى نُزلَه- ، لا أعرف من أين البداية، هل من الميلاد والنشأة وما تخللها من تهجير وبعد عن موظن أجداده زرنوقة في فلسطين المحتلة، ليعيش قصة اللجوء التي شرب منها روح الثورة، وما كان لذلك من أثر كبير في صقل شخصيته الفذة، هل أتكلم عن علمه وثقافته وأدبه وفكره المنير الذي أسّس لجيل بأكمله، أم أكتب عن جرأته وعنفوانه وثورته على الظلم والباطل، أم عن عشقه لفلسطين حتى أضحت مرافقةً لكل مشاعره وخلجاته وحتى خفقات قلبه حتى قال فيها "تلفظني كل حروفك يا فلسطين ، إن كنت غفرت أو كنت نسيت".
يمتد عشق "الدكتور الشهيد" لأرضه وطنه فلسطين منذ القسّام وحتى أيامنا هذه، فكر وجهاد وثقافة وانتماء، وحبُ لفلسطين بلا حدود، فمنذ أن ولد الدكتور الشهيد في مخيمات اللجوء بفلسطين، وتفتحت عيناه على الظلم والقهر المتواصلين لشعبنا وأمتنا بأكملها، وحتى ارتقت روحه دفاعاً عن قضيتنا المقدسة في مالطا، كان حبه لفلسطين يسري في كل جوانب جسده وعقله وروحه، حتى انطلق الشهيد للدراسة في مصر، فكان دائم القرب ممن ساند فلسطين وأيدها ولو بأدنى كلمة أو فعل، ووصولاً للزقازيق، لتبدأ طليعة الحركة المجاهدة في التبلور، لتكون تلك اللحظة نقطة تحول لنضال أصيل وِجهَتهُ فلسطين.
في محطات حياة "المعلم الشهيد" الممتدة طوال عمره -الذي كان زاخراً بالعطاء لفلسطين- نقاط مفصلية مهمة، جدّد الشهيد على أثرها توجهه نحو فلسطين، لتكون فلسطين في نظره ووجدانه إجابةُ لذلك السؤال الذي طالما سأله الكثيرون من المتعطشين لنصرة فلسطين في تلك الفترة، لتكمن الإجابة عند "الشهيد الأمين" بأنّ وِجهة المعركة هي فلسطين، وأنه من الواجب عدم تشتيت جهود الأمة لغير ذلك، وضرورة إعطاء هذه القضية بعدها التاريخي والحقيقي وهذا ما حدث، وهذا ما نلمسه جلياً في كتاباته التي صدر أكثرها باسمه الحركيّ (عز الدين الفارس) الذي صاغ من خلاله مفهوم فلسطين في قلب الأمة الإسلامية.
عاش "الشقاقي الأمين" حياته ثائراً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، رافضاً للظلم والطغيان بكل أشكاله، متمرداً على الواقع الذي يعيش حتى قال "هذا العدو أضعف مما نتصور، وإننا أقوى مما نتصور"، تلك الكلمات التي قالها قبل عقدين من الزمن حين كانت الثورة كلمة على ورق، وكانت القوة في الوطن ضرباً من خيال، لتكون كلماته في حينها مغامرةً خاسرة في نظر الكثيرين، لقد كان "الشقاقي الأمين" في كل تفاصيل نضاله ثورةً على الواقع، دائمَ السباحة عكس التيار، ساعياً لتحقيق العدل للمستضعفين ومناصرتهم في استرداد حقوقهم، كما كان دائم السعي بكل جهده لتوحيد كل أقطاب فلسطين –الوطنية والإسلامية منها على حدّ سواء- للعمل من أجل كل فلسطين، جاعلاً من فلسطين الأيديولوجيا الأسمى التي تتهاوى دونها كل الخلافات، كيف لا وفلسطين آية من آيات القرآن.
في شخصية "الدكتور الشهيد" الكثير من التفاصيل التي تستحق الكتابة، فقد كان الشقاقي وطنياً أصيلاً بين الوطنيين، إسلامياً عقائدياً بين الإسلاميين، صاحبَ نظرة عميقة في التاريخ، ورؤية مستقبلية لا تخيب أبداً، فقد كان قارئاً بعمق، مثقفاً ومنفتحاً على الآخرين، وكان يحاور اليساريين والقوميين والماركسيين والوطنيين والعلمانيين والبعثيين والاسلاميين ويجمعهم على أن "المقاومة حقٌ مقدس" و"فلسطين هي القضية المركزية لكل أبناء الأمة.
لقد جعل الشقاقي من "الإسلام المقاوم" عنواناً مهماً في مرحلة غابت فيها قضية فلسطين عن الساحة، فصار "الإسلام المقاوم في صدارة عناوين الأخبار وأعمدة الصحف كل يوم ليلَون مستقبل الطغاة بالسواد، ويهيئ لفجر تنهض فيه الشعوب، كل الشعوب المسلمة" كما كان يردد رحمه الله.
في ذكرى الرّحيل نحو العُلَى، نستذكر ربطَ القولِ بالفعل، وتصديقَ الفعلِ للقول، عندما قال "الشقاقي الأمين": "فالصف الأول يستشهد، والصف الثاني يستشهد، والصف العاشر يستشهد، نحن شعب الشهادة، ولو على حجر ذبحنا لن ننكسر، ولن نستسلم، ولن نساوم".
في الختام، أستحضر قول "الثائر الشهيد" متحدثاُ عن الشهداء، يمجّدُهم ويسمو بذكرهم، بل ومقدماً روحه ودمه على درب الشهادة قائلأ "لأن نُستشهد و على فمنا ابتسامة حمراء خير من أن نحيا في الذل عابسين".
فاسمح لي يا سيدي "أبا إبراهيم" أن أهمسَ لطيفكَ القادم علينا في ذكراكَ الطاهرةِ –من بعيد- ممتطياً صهوة العزّ والفخار ليرى حالنا بعد هذا الغياب، نصدق كلماتك الطاهرة التي ما زال صداها يتردد في مسامعنا، ونستشعر زفراتك الحرّى التي انطلقت يوماً لتعلمنا أن الوطن يعيده الرّجال بصبرهم وثباتهم، يوم قلت لنا "إن دور المجاهدين أن يمنعوا تمرير إتفاقيات الإذعان والخسران، وأن يوقفوا الإختراق الصهيوني للمنطقة"، نصدّقك أبا إبراهيم فأنت القائل "لا تصدقوني إلا إذا رأيتموني شهيداً"، إي وربّي، صدقَ الشهيد، صدق الشهيد>