فلتعلمي يا أمي أن الحياة لم تكن رحيمة مثلك!
وأن براح عناقك لم تهبه لنا الدنيا، ولو للحظة واحدة.
وأن قساوة الأيام كانت أشد من عقابك، عاقبتنا أحياناً على ما لم نرتكب.. كانت غيرك.
ولتعلمي أني لم أكبُر أبداً.
وددتُ لو لم أفعل. لو بقيت صغيراً في ضمّتك الطيبة للأبد. لو يسعني صدرك فأختبأ فيه من قسوة هذا العالم، لو أتكوّر في زاوية قلبك الحاني ولا أخرج.
انتِ طيبة جداً.. لا تُشبهي الدنيا.
ظننتُ الكل مثلك، الكل أنتِ.. وارتكبتُ جُرماً عظيما.
بيد أنك انتِ الاستثناء.. الوحيد.
أعتبُ عليكِ يا أمي،
لإنكِ صنعتِ مني حُسن ظناً لا يليق بعالمنا، وضعفاً لا يليق أبداً بقوة ارتطامنا على أرضه. جعلتِ مني عيناً بكّاءة، وقلباً هشاً لا يصلُب إلا في حضرتك، انتِ الهشة الأخرى!
كبرتُ وعلمتُ أنك جميلة بضعفك، وألمك، ووحدتك وأني وأنتِ وحيدتين من دوننا.. وإن تكاثر الجمع حولنا.
السير وحدي يرهقني، الغياب عن وجهك يُشعرني بغربة، وسِني الذي لم يعُد يجعلني طفلتك الصغيرة، مُتعب جداً وكاذب.. مثلي.
أنظر إليك بهمٍ ثقيل وأصمت، ماذا أقول وبماذا أنطق؟
أخشى عليكِ أكثر مما كنتِ تخشي علىّ. انا اليوم سندك، تبدَّلت الآية وصرتُ أنا مُتكأكِ.. فعجزتُ.
أرهقتكِ الأيام وأنا، كل متاعاً كان لي، كان سلب من شبابك وزهو أنوثتك. المرأة الجميلة، وهنَت من طول قامتي!
أُخفي عنك كل شئ، وأتكبّر على احتياجي لكِ.
رغم أني أريد الاحتماء وراء ظهرك كما كنت أفعل، وأطُلّ بعين واحدة حتى لا أُرىٰ وأرى.
تعلمي؟
هذا ما حدث بالتفصيل. أصبحتُ لا أُرى.. ولكني أرى.
سأدور في الطرقات وأعود إليكِ، سأقول -وإن قلتَ- أن البشر سيئون وأُزيد "إلا انتِ"، سأتذمّر على الجميع وأبكي أمامك. العالم يكبرني سناً وحجماً وقوةً، وأنا ضئيلة جداً فيه كما كنت في عناقك. لا يُعلّمنا برفقٍ مثلك، يصفعنا ثم يبدأ النُصح ويقول هل تعلّمت؟
يُطاول يده علينا يا أمي.. بعنف وعمْد ثم يقول "ما لم يقتلك، يعلّمك." رغم أنكِ علمتني الكثير دون ذِكر الموت ولا القتل يا أمي.. كنت رفيقة وحانية كعادتك.
أعتبُ عليكِ ثانيةً يا أمي.
فلتعلمي يا حبيبة، أني لم أكبر أبداً. وأني أود الاختباء من كل شئ، من كل شئ.. والانزواء في صدرك.
ضُمِّني يا أمي، ولنحكي صمتاً طويلاً عما جرى منذ خروجي منه أول مرة.