كان يقضي في محاولة النوم أكثر مما يقضيه في النوم . استيقظ في أحد الأيام ، كالعادة ، على إثر كابوس مزعج، بقي في سريره مدة ، ثم طرأ له شيء غريب. قرر ومن غير تفكير مسبق ، أن يتخلى عن ذاكرته ، أن يتبرأ منها .. أن يُظهر للناس ولنفسه أنه نسي كل شيء.
حين قام من السرير كاد أن يسقط على الأرض لولا أنه تشبث بحافة السرير ، لقد نسي كيف يمشي أو تظاهر بهذا . ارتدى ملابسه بعد أن تظاهر أنه يبحث عنها ، ثم خرج إلى عمله ، ركب سيارته ، ثم فكر " لقد نسيت كيف أقود السيارة" نزل منها ثم ذهب ماشيا . في الطريق وقف بجانبه شخص كان يعرفه " يبدو أن سيارتك أصابها عطل تعال معي" . "لم تتعطل لقد نسيت كيف أقود السيارة" رد عليه بنبرة جادة وأكمل مسيره.
حين وصل إلى عمله أخذ يجوب المبنى بحثا عن مكتبه ، وحين سأله أحد زملائه عن ماذا يبحث ، أجابه "لا أعرف أين مكتبي ، أنا بالكاد عرفت مقر العمل" أجاب بذات النبرة الجادة. "يبدو أنك لم تنم جيدا كعادتك ماذا فعلت البارحة؟! اعترف". لم يرد عليه ثم أكمل بحثه . "الحمدلله أني نسيت ثقيل الدم هذا ، ذاكرتي مليئة أمثاله؟! ".
بعد أحداث مشابهة انتشر في مقر عمله وبين المقربين منه أنه أصيب بزهايمر مبكر ، قال آخرون أنه هلوس من كثرة ما قرأ ، وقال بعضهم أنه أصيب بمس أو سحر .
أما هو فكان يعيش أجمل لحظات حياته . في هذه الأيام أعاد قراءة كل الروايات التي عرفها قديما . قرأ المسخ لكافكا وتظاهر أنه يتعاطف مع غريغور سامسا لأول مرة ، شتم مدام بوفاري في رواية جوستاف فلوبير ، وانبهر من نهاية انقطاعات الموت لخوسيه ساراماغو .
كان يستمتع بكل شيء وكأنه يعيشه للمرة الأولى ، بزوغ الصبح ، النسمة الباردة في أواخر الليل ، منظر الغيوم المتعانقة في السماء . وجد متعة جديدة كان يفتقدها . متعة الاكتشاف الأول ، الدهشة الأولى ، متعة أن تكون طفلا بلا ذاكرة أمام كل شيء .
أيضا بات ينام بسهولة ومن غير أقراص منومة . " ليس هناك ذكرى تؤرقني " . كان يحدّث نفسه قبل أن ينام نوما خاليا من الكوابيس .
لقد تحرر من عبء الذكريات ، نسي حماقاته السابقة ، ولم يعد يفكر بأحداث تعكر صفوه . كان متفرغا للعيش في حاضره ومن أجل حاضره . لقد تدرب على مهارة النسيان وأتقنها منذ أول مرة تظاهر فيها أنه سيسقط على الأرض .
في أحد الأيام استيقظ على غير العادة من كابوس مزعج ، نظر إلى الساعة " يبدو أني تأخرت على العمل " ارتدى ملابسه وخرج ، قاد سيارته مسرعا ، وفي الطريق تذكر أنه نسي كيف يقود السيارة ، ثم تذكر أنه لم يذهب للعمل منذ ذلك اليوم . " هل يعني هذا أني فقدت مهارة النسيان". أصابه رعب ترك معه مقود السيارة الذي انحرف ، ليرتطم بسيارة مجاورة .
استيقظ في مكان لا يعرفه . شخصان بجانبه يرتديان زيا أبيض ، سألهم من أنتم وأين أنا ؟! لم يردوا عليه ، سمع أحدهم يقول للآخر " أصيب بارتجاج في رأسه ويبدو أنه فقد ذاكرته كليا " . لم يفهم جيدا ماذا قالوا لكنه أحس بسعادة غامضة وعاد إلى النوم ، في هذا اليوم لم يحلم بكوابيس .