لو كان الفقر رجلًا ما قتلته، بل سأمنحه الخلود، فأجعله خالدًا مُخلدًا في زنزانة لا يرى فيها غير نفسه فيجزع منها، زنزانة ضيّقة كالزنازين التي يسجن فيها الفقر ضحاياه. زنزانة بضيق قبضته التي يُحكم إغلاقها حول أعناق الطامحين فيلفظون أنفاسهم وتتساقط رغباتهم بصورة عشوائية كجثث أسرى أعدمهم العدو بعد أن فشل في المفاوضة عليهم.
جنايات البشر في حق أنفسهم لا تُعدّ، ومن ضمن هذه الجنايات ابتكار النقود لحل المشاكل المتعلقة بتكلفة وتخزين ونقل البضائع... لقد تصوّر هذا المبتكر الجاني أنه سيخفف عنّا حمولات المقايضات، لكنّه حمّلنا أضخم حمولة في تاريخنا، فلم تخدمنا النقود الورقية، صرنا نخدمها. لم نمتلكها، صارت تملكنا.
أتصور لو أنّنا ما زلنا في زمن المقايضات سيتوقف العالم عن عرض مباهجه الفائضة في فاترينات شفّافة تمرّ عليها أعين المحرومين. لأن ما أملكه يشبه ما يملكه جاري، لا سبيل للتمايز في زمن المقايضات، فقد كان الكسب حينها على قدر التعب، من يتعب يكسب، من يكسب يُقايض، وما ينقص من بيتي لأني منحته لك سيحلّ محله شيء من بيتك... وعلى الأغلب؛ لن يولد البعض بملاعق ذهبية في أفواههم ولن يولد آخرون بأفواه يجول فيها الجوع.
لو كان الفقر رجلًا ما قتلته، سأمنحه الخلود، فأجعله خالدًا مُخلدًا في زنزانة تضيق على كل شيء باستثناء الندم، سأعرض للفقر طوال فترة محكوميته قصص ضحاياه، سأعرض قصص الأطفال الذين فاتتهم الأعياد لأنهم تخلّوا عن الثياب الجديدة التي لا يملكون ثمنها، فتخلّت عنهم الأعياد واستثنتهم المباهج الصغيرة. سأعرض للفقر أيضا قصص ضحاياه من البنات الفقيرات اللاتي يشعرن بالسقوط في هوّة عميقة داخل نفوسهن كلما جلسن مع مخمليات يتحدثن عن المكياج والعطور والملابس والأسواق والسفر... سأعرض للفقر في زنزانته وجوه الآباء المحبوسين في دوامة الكدح، الآباء الحزانى الذين ما غزاهم الشيب بسبب التقدم في العمر، بل بسبب عجزهم عن تحقيق أحلام أطفالهم.
سأعذّبه بصور الأمهات اللاتي ربطن أحجارًا على بطونهن كي يخرس نداء الجوع، فالطعام الزهيد بالكاد يسدّ جوع الأبناء، أما جوع الأم فيندرج ضمن الترف والكماليات...
سأعرض للفقر صور الثياب القديمة التي تخجل من الفرح المتجدد الذي تلاقيه في أعين المحتاجين المبتهجين بأنها وصلت إلى أيديهم أخيرًا بعد أن عافها الأغنياء.
لو كان الفقر رجلًا لقتلت نفسي لأني فتحت له باب الشيطان بكلمة (لو) فتصورته رجلًا منّا، من جنس الإنسانية، من جنس ضحاياه، ساويت بين بطشه وضعفهم، والفقر عدو لا ينتمي لضحاياه، الفقر حجر ضخم جاثم على صدر الإنسان. وليتنا مثله لا نبالي "ليتني حجر" و "ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر" وما أصعب العيش حين لا يصير الفقر رجلًا لنعذّبه ونغتاله، وما أصعب العيش حين لا يصير الإنسان حجرًا لا يمسه العذاب ولا يهدده الاغتيال...