قبل عدة أسابيع قام أحد متابعيني في تويتر بإعادة تغريدة كتبتها من عام ٢٠١١، فقط بعد أشهر قليلة من اندلاع الربيع العربي. حين نظرت للتغريدة كنت أرى صورة قديمة مني مثل تلك الصور التي تحتفظ بها في مجلد ذكرياتك. لم تكن التغريدة مقلقة بل صدمتني للحد الذي جعلني أهرع إلى حذفها من أرشيف التغريدات. 

كل محتوى أو قصة أو صورة تنتشر في الانترنت ستبقى فيه للأبد. وهذه الحقيقة تعني أن عليك أن تأخذ حضورك الالكتروني بجدية بالغة لأنك -مهما كنت طبيعياً- قد يأتي يوم وتدفع فيه الثمن. قد تخوض نقاشاً طويلاً مع أحدهم حول موضوع ما وتعترف في النقاش بشيء ما أو تؤكد على انطباع عابر أو ما إلى ذلك مما لا تعطيه اهتماماً كبيراً ولكن "سكرين شوت" مع هاشتاق كفيلين بتدمير كل حياتك المستقبلية. أنت فقط لا تدري متى ستنفجر القنبلة أو من أين. فماذا تكون هذه القنبلة ؟

لدينا ثقافة جديدة بدأت في التشكل مع ظهور الانترنت عموماً وتحديداً مع وسائل التواصل الاجتماعية وهي ثقافة الازدراء والإهانة والتحقير الجماهيري لأشخاص بعينهم (وتسمى بالهشتقة). لا أتحدث هنا عن فضائح صحفية تنال شخصيات عامة ومشهورة بل عن شخصيات مغمورة ربما لا تقرأ اسمها لأول مرة إلا وسط رموز الهاشتاق. قطعاً لا أحد يعرف من هذا الشخص ولكن "سكرين شوت" من حسابه الشخصي كفيل بدفع الآلاف من المستخدمين إلى إهانته وتحقيره وتدميره في العلن، وربما دفع بعضهم إلى تحريض السلطة والناس عليه بسبب خطئه.

هنا نرى تبايناً واسعاً بين نوعية الخطأ وبين الثمن الذي يدفعه الضحية. لنفترض أنك في جلسة مع أصدقائك أو مع الدائرة الأوسع من معارفك وفي لحظة ما تفوهت بتعليق عنصري بذيء للغاية أمام الجميع، ما الذي يمكن ان يحصل ؟ ربما يرد عليك بعضهم وقد يتطاول المتحمسين منهم أكثر من من مجرد الرد ويعتدون عليك. قد يتبع هذا ضجة كبيرة حولك وحفلة من الردح وستخرج من المكان سريعاً حتى لا تتلقى المزيد، أو ربما تعود وتعتذر للجميع وتوضح ما قصدته وعندها يهدأ الجو. بعد سنة من هذا الحدث ربما لن يذكر الكثير منهم اسمك ولا حتى تعليقك وإن بقي شيء منها فلن تكون بذات الوهج. وحتى لو تذكرها الجميع فمن المستبعد أن يكون لهذه الحادثة أثر على حياتك المهنية أو حياتك العائلية والعاطفية. الثمن الذي دفعته لم يكن مصيرياً وبحجم الخطأ العابر الذي ارتكبته. ولكن حين ننتقل إلى الشبكات الاجتماعية، فالخطأ الذي ترتكبه أولاً سيبقى في الانترنت إلى الأبد ولن يختفي. ولا يبقى الأمر على هذا فحسب بل إن الجماهير التي تشارك لن تتوقف عن التحريض ورميك بأبشع الأوصاف والألقاب وكل هذا سيبقى كذلك. سيسمع مديرك في العمل بما حصل ويطردك من عملك في ذات اليوم وربما كنت طالباً وقررت الجامعة فصلك من الدراسة -كما حصل فعلا في حالات عديدة.- ستبحث عن وظيفة أخرى في مكان آخر، وحين يبحثون عن اسمك في الانترنت ستقفز لهم عناوين الأخبار التي تتحدث عنك كذلك ليكون هذا أول انطباع لهم عنك. هل ستوظف أحدهم بهذا النوع من السوابق إذا كان بإمكانك توظيف غيره بنفس المؤهلات ؟ بالطبع لا. هنا -باختصار- تنتهي حياتك مقابل خطأ واحد. لا يحتاج المرء إلى عبقرية حتى يعرف أن حجم الخطأ هنا لا يتناسب أبداً مع حجم الثمن الذي يدفعه.

المشكلة في حملات الهشتقة أن المساهمين فيها لا يدركون فداحة الثمن. فكل مشارك في حفلة الردح سيعتقد أنه أقل بكثير من أن تغريدته ستدمر حياة آخرين وأنه لابد أن يكون للموضوع خلفيات أخرى. يستصغر الفرد عادة الأثر الحتمي والسلبي لمساهمته -وربما كان يطمح لهذا الأثر- متجاهلاً تأثير الأقران والعلاقات في تحويل أسخف الأمور إلى هاشتاق عالمي.

من الرومانسية السخيفة أن نعتقد أن مجرد تثقيف الأفراد كفيل بالحد من آثار التحقير الجماهيري والتنمر الالكتروني. وأعتقد ذلك لأن الهشتقة صناعة قائمة بحد ذاتها مدفوعة بأسباب يصعب عزلها عن استخدام الشبكات الاجتماعية. لنبدأ من المستخدم. غالبية مستخدمي الشبكات الاجتماعية في العادة يستخدمونها لكي يبهروا متابعيهم ويحظوا بالمزيد من المتابعين. هناك نشوة لا ينكرها إلا جاحد في كل ريتويت تحصل عليه لأن هذا يعني أن جمهور تغريدتك صار أوسع. وهنا نعود مرة أخرى لماذكرناه في التدوينة السابقة حول المحتوى الفيروسي في الشبكات الاجتماعية والذي يكاد يتمحور حول المحتوى الفريد والغريب والمفاجئ. وهذا يشرح لماذا قد يندفع كثير من المستخدمين للمساهمة في الهشتقة والريتويت لهذا النوع من المحتوى. ويتبع هذا دور الصحف والمواقع الخارجية التي يقوم نموذجها الربحي على عدد المشاهدات. فالصحف الإخبارية تتلقف الهاشتاقات التي يمكن أن تكتب عنها لكي تضيف رابط الخبر إلى الهاشتاق ومن ثم يقرأ الخبر كل من يريد التعرف على قصة الهاشتاق. فالمزيد من الضغطات يعني المزيد من المشاهدات، والمزيد من المشاهدات يعني المزيد من الإعلانات. هذا بشكل عام هو قانون المحتوى في الشبكات الاجتماعية الذي يسري على الجميع لأن تصميم هذه المواقع وثقافة استخدامها عززت من هذا السلوك حتى صار نمطاً عاماً.

والآن، ماذا نعمل ؟

تجنب كل حملات هشتقة الأفراد "خصوصا غير المعروفين" صغيرها وكبيرها لأنك لو شاركت فأنت تساهم في تدمير حياة أشخاص آخرين لم تعرفهم إلا للتو بسبب ١٤٠ حرف. لا تملك أدنى فكرة عن هذا الشخص، من هو وماذا يعمل وهل هو مريض أم لا وهل هو جاد أم لا  وكيف يفكر وووو. معلومة واحدة تعرفها قد تغير موقفك. ماذا لو عرفت أنه عصبي وذو مزاج حاد وكثيراً ما يتراجع عن آراءه وإساءاته؟ ماذا لو عرفت أنه ساخر ولا يأخذ كلامه بجدية ؟ ماذا لو عرفت أنه عانى طويلاً بسبب عنف أسري في طفولته مما انعكس على شخصيته ؟ لا أنوي سرد كل الأسباب لكني أجزم أنك حين تضع كل هذه بالاعتبار فلابد أن يتغير موقفك قليلاً إلى شيء من التفهم. ولكن نحن لايمكن أن نعرف كل هذه المعلومات المجهولة.

لو كنت في بداية حياتك الوظيفية أو لم تبدأها بعد، فلابد أن تأخذ التغريد على محمل الجد، أكثر من غيرك. لأن الكثير من الجهات الوظيفية ستنقب عن حضورك الالكتروني وتقرأ ماكتبته. ستقرأ هرطقاتك وجدالاتك مع الآخرين وتقرأ حتى لحظاتك الجميلة وبناء على هذا قد ترشحك أو ترفضك. الكثير يأخذ هذا بقليل من الاستخفاف ولكن اسأل أقرب مختص في الموارد البشرية ليخبرك عن أثر الحضور الالكتروني على سيرتك الذاتية. فهل تتوقف تماماً عن التغريد ؟ هذا حل معقول للبعض ولا أرى أنه سيء جداً. الكتابة باسم آخر غير اسمك المكتوب في السيرة الذاتية (وباستخدام ايميل آخر كذلك) خيار جيد أيضاً. لكن الحل الأمثل برأيي هو أن تسأل نفسك قبل كل تغريدة، هل أنت مستعد لكتابة مثل هذه التغريدة إلى مديرك في العمل أو ربما دكتورك في الجامعة ؟ شارك الروابط الجميلة والمقالات المثرية وأضف عليها تعليقاتك وأثر الحوار حولها. لا تقوم النقاشات العقيمة في العادة حول مقالات تخصصية أيا كان هذا التخصص. استخدم تويتر كمصدر للمعلومات والعلاقات، وليس كساحة لإثبات آراءك والتبشير بفلسفاتك السياسية لأن تويتر ليس موطناً لها. وتجاهل الردود المسيئة أو المستفزة لكي تموت مكانها. الرد على الاستفزاز يولد المزيد من التوتر ويخرجك عن طورك.

باختصار شديد: خذ كل تغريدة تكتبها محمل الجد.


* مصدر الصورة: How One Stupid Tweet Blew Up Justin Sacco's Life

قصص أخرى ذات علاقة

  • How One Stupid Tweet Blew Up Justin Sacco's Life  عن مديرة موارد بشرية في شركة محترمة، تتميز بالدعابة والسخرية الحادة من كل شيء. كتبت تغريدة وهي في الجو متجهة إلى جنوب إفريقيا فيها محتوى عنصري "أتمنى ألا أصاب بالايدز" ولم تهبط طائرتها حتى فصلت من وظيفتها وصارت على رأس الصحف العالمية. المقال يروي حياتها بعد هذ الحدث.
  • Surviging The Age of Humiliation 
  • The Price of Shame